د. تيسير النعيمي: نهج التطوير بـ «القطعة» لن يُصلح عيوب التعليم

ت + ت - الحجم الطبيعي

جودة التعليم ، والتحول إلى مجتمع المعرفة ، وإشكاليات التعليم في دولنا العربية ، وعمليات التخطيط والتطوير وصناعة القرار التربوي ، وتحديث منظومة التعليم ، ومقومات نجاح العمل التربوي التعليمي.... إلخ ، كانت كلها ، بدايات لخيوط قاربت هموم الكثيرين ، حتى وجدت نهاياتها في هذا الحوار العلمي الراقي ، الذي استمتعنا فيه مع سعادة الدكتور تيسير النعيمي مستشار معالي وزير التربية والتعليم.

 

برأيكم د. تيسير, ما أبرز إشكاليات التعليم في الوطن العربي؟

في الوطن العربي, وكنتيجة لعوامل كثيرة, منها ما يتعلق بعوامل داخلية ترتبط بالنظام التعليمي, وأخرى خارجية ترتبط بالسياسات التنموية, لا تزال إشكاليات التعليم تأخذ مداها فيه. فالإشكالية الكبرى في النظام التعليمي العربي, سواء في التعليم العام أو التعليم العالي, تكمن في نوعية, وجودة التعليم, قياساً بمستوى المعارف والمهارات لدى الطلبة.

وفي العائد على الاستثمار في التعليم, قياساً بمؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية, على الرغم من أن الدول العربية, تنفق إنفاقاً مقبولاً على التعليم, يصل إلى حوالي 6 % من الناتج المحلي الإجمالي. ففي الدراسات الدولية, سواء للطلبة, أو لمؤسسات التعليم العالي, تحتل الدول العربية, وللأسف, ذيل هذه القوائم في المقارنات العالمية, وذلك على الرغم من الأمل في أداء بعض الدول العربية, لا سيما طلبة الإمارات, والأردن.

غياب العمل المؤسسي, وشيوع الاجتهادات الشخصية, للأسف لا تزال تراوح عندها بعض نظم التعليم العربية, ما رأيكم؟

لا شك أن جانباً كبيراً من أوجه القصور في النظام التربوي العربي, مرده إلى غياب ثقافة العمل المؤسسي, ما يجعل السياسات والقرارات التربوية, محض اجتهادات فردية من صانعي القرارات, والمخططين, وراسمي السياسات. ولعل أبرز ما يميز النظام التربوي العربي, أنه لا يخضع للمساءلة, وتغلب صفة الفردية على آليات رسم السياسات فيه. كما أن مرجعية السياسات التربوية يغلب عليها طابع الانبثاق من التجارب الشخصية, ولا تحتكم إلى شواهد ومعلومات وبيانات توفر بدائل ممكنة للسياسات التربوية الفاعلة.

وما الحل للتغلب على هذه الإشكالية, أو مقومات النجاح, من وجهة نظركم؟

إن مقومات النجاح لنظام تربوي فاعل, يحقق أهدافه في توفير التعليم النوعي لجميع الطلبة, تكمن, أولاً: في بناء وتعزيز ثقافة مؤسسية للعمل التربوي, أساسها التخطيط السليم المستند إلى أسس موضوعية. وثانياً: في وضع قواعد لممارسات المساءلة ومراقبة الأداء في كافة مستويات العمل التربوي. وثالثاً: في المشاركة الموسعة مع المجتمع.

ورابعاً: في تبني نهوج ومقاربات لإصلاح التعليم, تأخذ بالمنحى التحولي, الذي يركز على إعادة هندسة النظام التعليمي باتجاه النتائج, وليس بهندسة مدخلات التعليم فقط, بعيداً عن الممارسات السائدة حالياً, والتي تتبنى نهج التطوير بالقطعة, الذي لا يُمكنه إصلاح عيوب ومشاكل التعليم. وخامساً: في اعتماد المدرسة وحدة التطوير, وحاضنته, بحيث يغدو التطوير ممارسة مدرسية حقيقية تنبع من المدرسة, وتمتد للأعلى, إلى مستويات العمل التربوي.

بكل صراحة د. النعيمي, أين نحن الآن في دولنا العربية من مجتمع المعرفة؟

المشهد المعرفي في الدول العربية لا يسر صديقاً أو يغيظ عدواً, رغم التفاوت القائم بين الدول العربية. هناك نقص في المعرفة: اكتساباً, ومعالجة, وإنتاجاً, وتشاركاً, ونشراً, فضلاً عن القصور في عناصر ومستويات البيئات التمكينية التي تهيئ لمجتمع المعرفة. ولعل ما أشار إليه تقرير المعرفة العربي الذي أعدته مؤسسة «محمد بن راشد آل مكتوم», وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2012 م, دليل واضح على أن الدول العربية عموماً, ما زالت بعيدة عن ولوج مجتمع المعرفة, من حيث مستوى المعرفة والمهارة التي تمتلكها الناشئة العربية, والتي تمكنهم من ولوج مجتمع المعرفة.

ولماذا يفتقر النشء العربي للمهارات المؤهلة لمجتمعات المعرفة؟

هناك أسباب عديدة, يقف على رأسها: كفاءة النظام التربوي العربي الذي لا يزال يعاني من تقليدية واضحة في المناهج الدراسية, وأساليب التدريس التي تركز على الحفظ والاستظهار, لا على معالجة المعلومات وإعادة إنتاجها. كما أن أساليب تقويم الطلبة لا تزال تكرس حفظ المعلومات واستظهارها.

ولكن يجب أن ندرك أن الأسباب لا تكمن فقط في عوامل ترتبط بالنظام التعليمي, وإنما أيضاً بعوامل أخرى, منها الاجتماعية, مثل أساليب التنشئة الاجتماعية, ومنها التشريعية, مثل القوانين والأنظمة المحفزة للإبداع والابتكار, وغيرها.

كيف نستطيع هنا في دولة الإمارات إعداد الأجيال القادمة لمجتمع المعرفة؟

دولة الإمارات تُمثل أنموذجاً متقدماً في اتجاه السعي الجاد إلى التحول نحو مجتمع المعرفة. إذ إن هناك إرادة سياسية واضحة من الدولة, تدفع باتجاه التعلم, واكتساب المعرفة, وإنتاجها. وهناك قوانين ناظمة، وحاضنة للإبداع والتميز, وحماية الملكية الفكرية، إلى جانب البيئات التكنولوجية المتقدمة المتاحة للجميع, دون قيود على مصادر المعرفة وتشاركيتها. لقد نجحت الإمارات في الولوج إلى مجتمع المعرفة, بكل ثقة واقتدار, مع إدراك أهمية تسريع وتيرة هذا التحول, بحيث يكون للجميع, ومستداماً, وبهوية وطنية, تترك بصمتها على المشهد العالمي. ولعل ما تقوم به وزارة التربية والتعليم, في خطتها الاستراتيجية, ومبادراتها, مثال حي على مقاربات متقدمة لهذا التحول.

تسعى وزارة التربية إلى نشر ثقافة الجودة بمختلف مستويات العمل التربوي, فأين نحن من هذا الآن؟ ومتى يتم تحقيقه؟

وزارة التربية والتعليم ماضية بثقة في اتجاه تعزيز ثقافة الجودة والعمل المؤسسي, في مستويات العمل التربوي المختلفة. وهذا بالطبع هو امتداد لنهج الدولة في كافة القطاعات التي سعت باقتدار إلى نشر ثقافة الجودة, والتي غدت بحق مثالاً يشار له في المحافل العالمية. والتحليل العلمي الموضوعي لبرامج الوزارة, ومبادراتها, وسياساتها, يكشف بوضوح أن محورها الأساسي هو «الجودة», و«ثقافة العمل المؤسسي», فهي انطلقت من تجويد تعلم الطلبة, وسارت في مسار تخطيطي محكم, سمته التشاركية الداخلية والخارجية, ومتابعة في إطار شفاف من المراقبة والتقييم المستمرين.

والمتابع, يلمس بوضوح الممارسة الحقيقية لثقافة الجودة, من خلال التركيز على نوعية وجودة الخدمة التعليمية, من: برامج تطوير المناهج, وإعداد القيادات المدرسية, والاعتماد الأكاديمي, والرقابة المدرسية, ودمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم, وبرامج متطورة للإرشاد المهني. فكلها شواهد على ثقافة الجودة.

«التربية» بصدد تأسيس نظام شامل للمؤشرات التربوية, بهدف دعم القرار التربوي, كيف ترون ذلك؟

نجاح برامج عمل وزارة التربية ومبادراتها, يعتمد على آليات فاعلة لدعم القرار التربوي. وقد بدأت الوزارة بتطوير نظام المعلومات الموجود, إلى نظام لإدارة المعلومات ذاتها, وصولاً إلى نظام متكامل لدعم القرار التربوي, إدراكاً منها لأهمية أن تُبنى السياسات التعليمية على بيانات ومعلومات ومؤشرات, تحلل الظاهرة التربوية, وتقدم من خلالها بدائل للسياسات التعليمية, كي تُشكل أساساً موضوعياً سليماً للقرار التربوي.

وقد بدأت الوزارة فعلياً بتطوير آليات جمع البيانات, انطلاقاً من أهداف السياسات التربوية, وضمان موضوعية وصدقية البيانات وحداثتها, من خلال نظام متكامل للبيانات المدرسية, يمكنه تقديم مؤشرات تهتدي بها عمليات التخطيط للتعليم، وعمليات المراقبة والتقييم لجوانب السياسات التعليمية. وستبدأ الوزارة بتطوير هذا النظام إلى نظام متكامل للمعلومات الإدارية, يربط, على نحو تكاملي, قواعد البيانات الإحصائية المدرسية, ببيانات الإنفاق على التعليم, وبيانات الموارد البشرية, وبيانات السكان, وغيرها. ما يُمكن من توجيه عمليات البحث والتقييم للسياسات التربوية, وتتبع المؤشرات وتحليلها, وتقديم بدائل لمعالجة أوجه القصور.

من منظور علم النفس التربوي, الذي تحمل درجة الدكتوراة فيه, كيف نوجه طاقات الرفض والتمرد لدى بعض طلبة المدارس, إلى التطور والبناء؟

على الرغم من أنني لست ممن يؤمنون بأن الطلبة تنازعهم دوافع التمرد والرفض, إلا أن ذلك لا ينفي أن جيل اليوم, يختلف عن سابقه في الاهتمامات والميول. وهذا يشير بوضوح إلى أن المدرسة الحالية: تنظيماً, وبرامج, ومضامين تعلم..

إلخ, قد لا تناسب هذا الجيل. وإن ما كان نافعاً وفاعلاً في السابق, ربما ليس بمقدوره أن يكون كذلك حالياً. ولنتذكر قول الإمام علي بن أبي طالب «رضي الله عنه»: أعدوا أبناءكم لزمان غير زمانكم». وهي مقولة تبين, بجلاء, أن منطلقات التخطيط للتعليم, في المستقبل يجب أن تكون أكثر استجابة لحاجات المتعلمين والمجتمع.

وما يندرج تحت ما يمكن تسميته, بـ «طاقات الرفض والتمرد», يُمكن توجيهها إلى طاقات للبناء والتقدم, إذا وفرنا «الثقة أولاً» في الطلبة, وفي أنهم ليسوا قادرين على التعلم فحسب, وإنما على تنظيم ذواتهم وتوجيهها. لذلك, فإن التعامل مع الطلبة, تربية وتعليماً, وإرشاداً, يتطلب الثقة فيهم, وفي قدراتهم, وفي ما يناسب ميولهم, وليس ما يحقق رغبات الكبار. على أن المراقبة الواعية والمعلنة مطلوبة, لأنها تحشد الطاقات باتجاه الأهداف.

لديكم خبرة كبيرة ومشهود لها في العمل التربوي, ما الذي كنت تتمناه, ولم تخدمك الظروف لتحقيقه؟

القدرة على تحقيق الأهداف, لا تعتمد على وجاهة الخطط فقط. وإنما على عوامل أخرى تتعلق بالأنساق الاجتماعية, والسياسية, والاقتصادية, التي يتغذى منها النظام التربوي. كما أن من المهم الإدراك أن الجهد الفردي لا يمكن أن يحقق النجاح في العمل التربوي, وأن العمل لا بد أن يكون تراكمياً. من أبرز ما كنت أسعى إلى تحقيقه في مواقع عملي السابقة, هو الفصل بين رسم السياسات التربوية, وتنفيذها, من خلال: إخراج كافة المهام المتعلقة بالتخطيط الاستراتيجي, ورسم السياسات, والمعايير, والمراقبة والتقييم، إلى جسم مستقل «الأكاديمية الوطنية لتطوير التعليم», بعيداً عن البيروقراطية.

هل لديكم «وصفة سحرية» كفيلة ببناء القدرات التربوية والتعليمية الوطنية, في مجالات التخطيط العلمي؟

لا أعتقد أن لدي, أو لدى غيري, «وصفة سحرية» لذلك. ولكن المنطلق, هو الاحتكام إلى ما ثبتت فعاليته في سياقات مشابهة. وفي مجال التخطيط للتعليم, فإن الأساس هو بناء ثقافة التخطيط للتعليم في مستويات العمل التربوي, لا أن يبقى التعليم رهين التصورات والاجتهادات الذاتية والفردية. هذه الثقافة هي الأساس, وهي لا تبنى بالحديث عن السياسات التربوية, وإنما في إعمال المنهج العلمي, الذي يجعل من التخطيط عملية تشاركيه موجهة, ومستمرة, في دورة متكاملة, تستند إلى شواهد ومؤشرات موضوعية تحكمها الشفافية والمصداقية.

 

فكر متقدم

 

 

 

في معرض حديثه عن مقومات نجاح النظام التربوي الفاعل ، والقادر على توفير التعليم النوعي لجميع الطلبة ، قال د. تيسير النعيمي: أشيد بما شاهدته هنا ، في دولة الإمارات ، وما تتبعه وزارة التربية والتعليم من نهج علمي مدروس ، وبما لدى معالي حميد محمد القطامي ، من فكر متقدم ، وعمل دؤوب ، وتشاركية واسعة ، أصبحت منهجاً للعمل في الوزارة ، والمناطق والمدارس. وأضاف: لست أبالغ إن قلت إن المتابع الموضوعي ، لا يمكنه إلا أن يقدر هذا المناخ الإيجابي ، وهذا النهج المتقدم في آليات رسم السياسات والتخطيط للتعليم في الوزارة.

Email