تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحذّر مؤلف الكتاب، الباحث د. جورج قرم، منذ بداية تحليله ومناقشاته، من أن تأليف كتابه لم يكن من قبيل كراهية أوروبا، ولا من قبيل حبها والتعلق بها، إذ إن الغاية من تأليفه هي تبيان أن مفهوم الغرب والقيم المتشبث بها، لم يعد له لا هذا المعنى أو ذاك من المعاني التي كانت له عبر تاريخ أوروبا. ويسعى من خلال ترحاله المعرفي إلى تفكيك أصول هذا المفهوم، وتبيان الخيوط القديمة له، ووضع ألوانها وصيغها ومحيطاتها الثقافية داخل سياق معرفي جديد. ذلك أن مفهوم الغرب، كان بالأمس يثير خلافات بين الأوروبيين، ولم يعد في أيامنا هذه إلا مفهوما فارغاً، جيوسياسياً بالدرجة الأولى، وخالياً من أي مضمون غني يمكنه الإسهام في بناء حياة العقل وبناء مستقبل أفضل. وعليه يجري تتبع المسار التاريخي للمفهوم وما آل إليه اليوم، حيث تلقفت الثقافة السياسية الأميركية هذا المفهوم، وكثفت استعماله خلال الحرب الباردة، ويبدو أنها لن تتمكن من الانفصال عنه.

ويستند قرم في تفكيكه هذا لمقولة الغرب، إلى أطروحات وآراء العديد من الكتاب والمفكرين والفلاسفة، سواء الداعمة لأفكاره أو المخالفة لها. ويبدأ بالاستشهاد بما كتبته حنا أرند التي اعتبرت أن الشموليات اختفت ليحل محلها، اليوم، الإرهاب، كـشرخ في الزمان، في صيرورته وفيضه اللا منتهي، وفي الحيّز بين الماضي والمستقبل، وهو في الوقت نفسه مقاومة للماضي والمستقبل. وقد تكسرت تلك الصيرورة والاستمرارية في القرن العشرين من قبل الأنظمة الشمولية وممارساتها والحربين العالميتين، لكن ذلك الشرخ بعيد عن أن يُجبر من جديد، لأن الأصل فيه يكمن في صدام الرؤى الذي أنتجته أوروبا في القرن التاسع عشر.

وأفضى صدام الأفكار الأوروبية إلى قلب القارة الأوربية نفسها؛ إلا أن الفجوات التي تركها على مستوى استقرار العالم أنتجت موجات اهتزازية أخرى مازالت بعيدة عن التوقف، وأمام انفجار بركان الأفكار الأوروبية، فإنه ليس من السهل فهم وتتبع الهزات تحت الأرضية لقوة الأفكار والعراقيل التي تقف في طريق رواجها عبر العالم. إذ هناك كثافة لهذا الإنتاج الفكري داخل الثقافات الأوروبية، وإنتاجها واسع في حقول الفلسفة أو التاريخ أو الميتافيزيقا أو الشعر أو الأدب أو اللسانيات أو السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا. وهنالك خطرٌ في الاستسلام لسحر هذا الشكل الفلسفي أو ذاك أو الاستسلام للطموحات التي قد تتولد عنها، أو الارتماء في بحر المعرفة المتخصصة، فيفقد الساعي إلى هذه المعرفة الرؤية الشمولية ككل.

وفي عصرنا الراهن، فإن الشرق الذي كان يجعل الغرب كائناً كمفهوم أسطوري، لم يعد هو الشرق السْلافي أو الأصفر، بل هو الشرق المسلم، حيث أصبح الإسلام في خلال بضعة عقود، كياناً حياً، مهدداً، مضاداً للغرب بامتياز. وجعلت منه كتابات كثيرة، أكاديمية وإعلامية، كائناً حياً متوحشاً، وعملاقاً، يسعى إلى المواجهة مع الغرب. وقد تعددت الصور في المتخيل الغربي، التي أفضت إلى تراكم سلسلة من الكليشيهات. وتفترض مقولة الغرب أن يبقى الآخر / النقيض، ماثلاً في كل حين وزمان، حتى يمكن اختلاق هوية متميزة. وفكرة الغرب بحاجة دائماً، إلى قطبها السالب، أي فكرة الشرق المختلف. لكن، إذا كانت مقولة الغرب تجسد اليوم العديد من المفاهيم الشائعة، كالحداثة، والفردية، والمساواة، والرفاهية، وتحرر المرأة، فإنه من الضروري، أن تقابلها صورة عن الشرق، من محمولاته ومفاهيمه النقيضة، كالتعصّب، وغياب القيم الفردية، والإرهاب، وحكم الديكتاتوريات الدموية، واضطهاد المرأة. ذلك أن الغرب يلتمس شرقاً مبايناً كضرورة ماسّة لبناء هوية تحجب عن الأنظار، بالرغم من ما عاناه هذا الغرب من حروب داخلية، ونزاعات دينية، ومن صراعات وحروب.

ويعتبر جورج قرم أن أسطرة فكرة الغرب أفضت إلى إيجاد الروابط وتآزر المختلفين والمتباينين حول غايات وأهداف تخطي تبايناتهم وصراعاتهم وحروبهم، لتتشكل مقاماً جامعاً يستر الاختلافات والنزعات الداخلية.

ويلفت المؤلف إلى أنه تقوم الأسطورة بوظيفة أساسية في كل حياة اجتماعية، بوصفها من يخلق ويقوي، بدون توقف، الروابط الاجتماعية، وبقيت دراسة الأساطير، لفترة طويلة من الزمن، من اختصاص الإثنولوجيين الأوروبيين، الذين راحوا يكتشفون القبائل «المتوحشة»، التي تعيش بعداً عن التيارات الكبرى الحضارية، وشكلت موضوعاً للعديد من الدراسات الخاصة بالأساطير اليونانية، خاصة تلك المتعلقة بالآلهة. ثم اختفى الإرث الأسطوري اليوناني عدة قرون تحت تأثير المسيحية، وعاد إلى الواجهة خلال عصر النهضة الأوروبية، وأضحى فرعاً هاًما من فروع المعرفة والثقافة في القرن العشرين المنصرم. وهكذا ينتقد قرم أسطرة الغرب التي بلورتها الفلسفة الهيغيلية المتعالية والفيبرية، ودعمتها النيتشوية، ومجمل الفلسفات التي قامت على أساس الروح الكلية. ويوضح المؤلف انه ارتبطت مقولة «الغرب» بالفلسفة الألمانية، وبالتحديد بكتابات هيغل وماكس فيبر، وكانت تشير إلى الانقسام داخل أوروبا نفسها ما بين فلسفة الأنوار الفرنسية - الألمانية، وبين أوروبا التقليدية التي كانت تحاول الحفاظ على القيم الدينية العتيقة، وعلى أنماط التراتب الاجتماعي الموروثة عن العصور الوسطى.

وأخيراً، لا ينسى جورج قرم أن يبرز الوجه الأخر لأوروبا، الوجه المضيء الذي غالباً ما ينساه المؤرخون والكتاب والفلاسفة، ألا وهو الإنتاج الموسيقي الأوروبي، الذي جعله يضع صورة لحفل كونشيرتو غلافاً لكتابه. ويرى أن ذروة العبقرية الموسيقية مجسدة في أعمال الموسيقار موتسارت، الذي شكلت موسيقاه إسهاماً أساسياً في النهضة الموسيقية، حيث تعانقت فيها الموسيقى الدينية بالموسيقى الدنيوية، وتنوعت مصادر وحيها وإلهامها، ولم ترض أن تبقى حبيسة صالات وغرف الكنائس والكاتدرائيات والأديرة، بل حلّقت وتناثرت فوق كل الأقاليم والقارات.

الكتاب: تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب

تأليف: جورج قرم

الناشر: دار الفارابي، بيروت، ‬2011

الصفحات: ‬439 صفحة

القطع: الكبير

Email