الاستجواب

الاستجواب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعد رواية «الاستجواب» الصادرة في طبعتها الفرنسية الأولى عام 1963 أول رواية للروائي الفرنسي الفائز بجائزة نوبل للأدب في 2008 جان ماري غوستاف لوكليزيو، وهي تعود اليوم لاستقطاب اهتمام الكثيرين على امتداد العالم مع صدورها في ترجمة انجليزية جديدة عن دار سيمون أند شوستر الأميركية المرموقة.

وعلى الرغم من أن الرواية، في حينه، دخلت تنافساً محتدماً على الفوز بجائزة جونكور، التي تعد أبرز الجوائز الأدبية الفرنسية، إلا أنها انتزعت، بدلاً من ذلك، جائزة رينودو لمؤلفها الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره آنذاك.

ومع أن لوكليزيو يصف هذه الرواية اليوم بأنها «أقرب إلى نكتة» على حد تعبيره، إلا أن ذلك لم يمنع النقاد من النظر إليها باعتبارها رواية مميزة تحلق إلى سماء الأسطورة.

ويقول لوكليزيو إنه عكف على تأليف الرواية من خلال الكتابة المحمومة في الغرف الخلفية للمقاهي، في الشهور التي سبقت ميعاد تجنيده في صفوف القوات الفرنسية في الجزائر. وهو يقول عن هذه المرحلة: «لقد كان وقتاً صعباً وخشناً» في قصة فرنسا.

ومن المحقق أن الرواية اليوم، تماماً كما في عام صدورها، أي 1963، تثير حيرة القارئ لأول وهلة، فهي تروي قصة آدم، الفتى الذي يبدو أقرب إلى ناسك منه إلى أي شيء آخر، والذي يجر نفسه جراً على شاطئ البحر القريب من بلدة فرنسية، محاولاً التأكد مما إذا كان قد سرح لتوه من الجيش أو تم إخراجه من مستشفى للأمراض العقلية.

وتبدو الحبكة الروائية حافلة بالأحداث، حيث تتابع آدم وهو يمضي إلى حديقة الحيوانات، وهناك يخوض حواراً حافلاً بالعذاب مع صديقته الحميمة، ويرقب جثماناً ينتشل من البحر، ويلقي خطاباً مذهلاً على الجمع المنتشر على الشاطئ.

يبدو واضحاً لنا أن التركيز في الرواية ينصب على المشاعر، حيث يحدد آدم الإيقاع، الذي سنراه يتردد في روايات لوكليزيو الست اللاحقة، حيث البطل تغذيه مشاعره، وبالنسبه له يعيد العالم صياغة نفسه في أشكال جديدة مفزعة، وتفعم نفسه بالفزع من جراء ما يلقاه من ذاته ومن الآخرين أيضاً.

وتقع أحداث الرواية فيما يشبه غيهما يصعب فيه رصد التفاصيل والأشياء والملامح.

هكذا يقول لنا إنه: «في كل خطوة يواجه خطراً جديداً قوامه أن خنفساء ستنطلق إلى فمه المفتوح، وتغلق زوده، أن عجلة ستهوي عليه من شاحنة مارة، فتطيح برأسه، أو أن الشمس ستنطفئ، أو أنه هو نفسه سيهيمن عليه نزوع للانتحار».

هكذا فإن البطل، آدم بولو، يبدو لنا كما لو كان الرجل الأول، وربما الرجل الأخير، ونتابع مغامراته المدهشة، حيث نرصد تركيزه واكتشافه لطرق للوجود، طرق للرؤية، ونحن نتابعه مذهولين، وهو ينسل إلى الحيوانات، إلى شجرة، ولا نراه يقوم بعمل معين، ولا يتعرض إلى ما يشغل انتباهه ويصرفه عن التركيز على ما يفكر فيه، وبهذا يبدو لنا تحت تصرف الحياة تماماً، الحياة كلها، باستثناء مجتمع الناس، وتحت هذا الأفق تنتهي الرواية.

ولم يتردد النقاد في أن يقولوا عن هذه الرواية إنها:

«المرحلة التالية للرواية الجديدة الفرنسية» وشبهوا المؤلف بكافكا، وأنه ينحدر مباشرة من جويس ومن بيكيت، وأنه لا يشبه أحداً، وبادر مئة ألف فرنسي إلى شراء نسخ من الرواية، فور صدورها، وقالوا عنها انها غريبة وجميلة.

اليوم، تماماً كالأمس البعيد، لا تزال هذه الرواية تثير حيرتنا، ونستطيع تفهم السر في أن صحيفة «الاكسبريس» الباريسية خرجت وقتها على القراء بعنوان دال هو «لو كليزيو التجلي الأدبي لهذا العام».

ونستطيع أيضاً ان نتفهم السر في انقسام لجنة تحكيم جائزة غونكور في عام صدور هذه الرواية بتحمس خمسة من المحكمين لمنحه الجائزة ورفض خمسة منهم إعطاءها له، الأمر الذي دفع رئيس اللجنة إلى استخدام صوته المضاعف لإعطاء الجائزة لغيره، على حين منحتها له لجنة جائزة رينودو بعد ذلك بعشر دقائق فقط. وبادرت معظم الإصدارات الفرنسية الأدبية إلى إعطاء الصدارة لأخبار جائزة رينودو. هكذا تبدو لنا الرواية أسطورة دون عناصر تأكيد وتشديد واضحة المعالم.

وتقول الناقدة دونا سيمان في مقال لها في مطبوعة «بوكليست» المتخصصة عن لوكليزيو: «روائي ساحر.. متوافق على نحو بديع مع سعي الطبيعة إلى التوازن وتوق الإنسانية إلى التجاوز. وهو يكتب بتعاطف كبير وبتساؤل عميق عن قوة الروح التي لا حدود لها».

ويقول موريس نادو في مقال بصحيفة «الإكسبريس» إن لوكليزيو «سرد روايته من دون لجوء واحد إلى المصطلحات الفلسفية والأخلاقية والميتافيزيقية، وتتسم نغمته بهدوء ينقل الشعور بالمعنى العميق للحياة، نغمة تليق بالشعراء. ويطل لوكليزيو اسماً يستحق ان نتذكره».

وتقول باربرة بروبست سولومون في مطبوعة «نيويورك تايمز ريفيو» «إن لوكليزيو كاتب قوي وجريء، وقد غير قالب الرواية». أما روبير كانثير فيشير في مقال في «فيجارو ليترير» إن: »لوكليزيو يتمتع بالموهبة والقدرة على الإقناع ككاتب وروائي حقيقي. واذا كانت هذه الرواية تشكل مقياساً للتجربة النفسية، فإنها قد صيغت في أجواء مفعمة بالدفء، ويشارك فيها القارئ بكل قدراته».

ويتعين، أخيراً، أن نلاحظ أنه على الرغم من استمرار الروحية التي كتب بها لوكليزيو هذه الرواية في ست روايات لاحقة، إلا أنه في غضون السبعينات قام بتغيير طريقته في الكتابة تماماً، حيث اختفت الحبكات التي توشك أن تكون مجردة من الحبكة والاستحضارات المحمومة للجنون ليحل محل هذا كله أسلوب يوظف الرسم البارع للشخصيات والبحث التاريخي لسرد قصص عن الهجرة والغنى والتغيير، حيث يلمح في روايات «الصحراء» و«أونيتشا» و«النجمة الحائرة» ملامح أسلوب لوكليزيو الناضج الآخذ في الازدهار.

ويبقى من المهم، أخيراً، أن نلاحظ أنه على الرغم من مبادرة المترجمين العرب إلى ترجمة بعض أعمال لوكليزيو عقب فوزه بجائزة نوبل للأدب، إلا أن القارئ العربي لايزال أبعد ما يكون عن تحقيق الحد الأدنى من الرؤية الواضحة والمتكاملة لعالم لوكليزيو الروائي. ومن يدري ربما يتحقق ذلك في المستقبل القريب.

الكتاب: الاستجواب

تأليف: جان ماري غوستاف لوكليزيو

الناشر: سيمون أند شوستر نيويورك 2010

الصفحات: 256 صفحة

القطع: المتوسط

J.M.G.Le cgezio

Simon and Schuster n.y. 2010

256 p.

Email