الشعر والحرية في التجربة الشعرية العربية

الشعر والحرية في التجربة الشعرية العربية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

العلاقة بين الشعر والحرية، علاقة روح وجسد، الفصل بينهما يعني موت القصيدة، هذه القصيدة التي تستمد حياتها: لغتها ورؤيتها وتقنيتها وموضوعها وحيويتها من روح الحرية، ولأن هناك محاولات تتهدد القصيدة للحد من حريتها، الأمر الذي قد يجمد قدرتها على التمرد والتجاوز، كان لابد من أن نطرح سؤالا عن علاقة الشعر بالحرية وهل العلاقة بينهما متحققة في التجربة الشعرية العربية الآن في تجلياتها المختلفة سواء لدى أجيال الريادة أو الأجيال الحالية؟ حرية التعامل مع اللغة، مع الصورة، مع الأسلوب، مع الرؤية، مع القضايا الذاتية والعامة، مع العالم، مع الدين والسياسة والجنس.

الشاعر جمال القصاص يقول: لا أحد يمنح الشاعر حريته، أو يقرر له مساحة الفضاء الذي سيبدع فيه نصه. في الفن الحرية ليست هبة أو منحة، بل هي سؤال مفتوح وممتد في جسد الزمان والمكان، هي ضرورة وجود وشرط حياة، وبدونها ينتفي الاثنان معا. لذا أتصور أن من مهام الشعر الحقيقية البحث عن الحرية، عن معنى ورائحة خاصة لها، تنفلت من أثر الموضوعات والقوالب التقليدية الضيقة، وتتمرد على السدود والحواجز والأسوار، أيا كانت اجتماعية أو سياسية أو دينية، أو أخلاقية. إذا لم يكتشف ويحقق الشاعر حريته في فضاء نصه، فعبثا يستجدي الحرية من الآخرين، لأنها حينئذ ستتحول إلى صك، ووسيلة لتيسير دفة الأمور، وتزويق وجه الحياة، بينما هي أصلا الحياة ذاتها. ان سؤال الحرية في الفن والشعر مسكون دوما بهواجس التخطي وإرادة التجاوز، بما في ذلك تخطي المحرم نفسه، وإلا صار النص نفسه عبدا لهذا المحرم، أو مستنسخا باهتا لظلاله.

محاولات فاشلة... الشاعرة الكويتية سعدية مفرح: لا... الشعراء العرب ليسوا أحرارا إلى هذا الحد، أعني ليسوا أحرارا أبدا، حتى من يتوهم منهم أنه حر سيكتشف في لحظة شعرية ما أنه ليس كذلك. الشعر يحتاج لحرية مطلقة، أعني كاملة ولا حرية كاملة، ولذلك فلا قصيدة كاملة ولا تقترب من الكمال. لو سألتني عن تجربتي الشخصية على هذا الصعيد لقلت لك انني في محاولة مستمرة للتدرب على الكتابة بحرية، لكن معظم محاولاتي فاشلة، اكتشفت ذلك في وقت متأخر من حياتي بعد أن كنت مقتنعة أنني حرة تماما فيما أكتب ما دمت أكتب بعيدا عن أي رقيب يمكن أن يراقب ما أكتبه، وتجاهلت أخطر رقيب وهو الرقيب القابع في أعماقي يراقب حتى أفكاري الشعرية ساخرا مما أعتقد.

قبل الشكل... الشاعرة المغربية منى وفيق: «حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين» تنطبق هذه المقولة على الجميع إلا على الشعراء فحريتهم تبدأ ولا تنتهي عند أحد إلا القصيدة، الشعراء يناضلون باستمرار من أجل حريتهم.. كل جيل يناضل من أجل الجيل الذي يليه وكما يبدو فهي حرية لا تتحقق تماما!! الأخطر والأهم هو أن يكون هنالك رقيب داخلي وأن يخلق الشاعر مناطق للتخوف والاضطراب داخله ويلغي بالتالي إنسانية الشعر وفطريّته..ولا تكون لديه أيّ فلسفة شعريّة خاصة!! يجب أن تتكاثف الحرية في الفكرة الشعرية قبل المضيّ في البحث عن شكل أو لغة لهذه الفكرة.. يجب أن يزحزح الشاعر الرؤى والبنى الشعرية من الداخل وليس أن يستبق الحكم على شعره بكونه مضطهدا ومحاصرا من قبل أن يكتبه حتى..على الشاعر أن يؤمن بحرية فكرته وليس أن يتخطى حدود حرية فكرة معينة هو نفسُه غير مقتنع بها بل يروّج لها فقط ليُظهر أنه تخطى كل الحدود «اللا شعرية».. إن كل قصيدة عليها وصاية هي ميّتة لا حياة فيها.. وكلّما قلّت الحريّة قلّ عدد الشعراء الحقيقيّين! لكنّ المساحات التي أمّنتها الإنترنت اليوم تجعلنا متفائلين دون الخوف من الرقيب الخارجيّ ومن دكتاتورية المؤسسات الثقافية العربية..

خرق المتعارف

الشاعر سيد جودة: ان مجتمعاتنا تشكلها أفكار رجعية وعقول ظلامية ترفض أية مساحة للحرية. وعلى الرغم من أن ظهور الإنترنت في عصرنا الحالي ساعد على إيجاد قدر كبير من المساحة لهذه الحرية، إلا أن النشر الورقي ما زال يخضع لملاحقات قانونية بين الحين والآخر تذكرنا بأننا لم نحرز أي تقدم.

هذا لا يمنع من أن هناك محاولات عديدة من جيل الشباب في إيجاد هذه الحرية في الكتابة الإبداعية عن طريق خرق المتعارف عليه في الصياغة اللغوية، أو ما تعارف عليه المجتمع من أفكار وتقاليد. غير أن هذه المحاولات ليست على قدر من الإبداع يكفي لأن تكون أثراً أدبياً.

فالعبرة ليست بأن يلاحقنا أصحاب الحسبة لمجرد الخروج عما هو مألوف لديهم، بل العبرة بالإتيان بنص إبداعي فذ يحفر طريقاً يسير فيه الآخرون. لكن ستظل المشكلة قائمة فالخروج عن مألوف اللغة يعدّ، عند الكثيرين، نوعاً من الخروج عن الدين، وهنا تحدث المواجهة.

سجن المسموح

الشاعرة والمترجمة هدى حسين: الحرية التي أعرفها كما قلت منذ أكثر من 5 أعوام، هي مقهى في باب اللوق بوسط البلد، وغير ذلك فهي مجرد مفردة في اللغة.

هناك سجن وسجن أوسع وسجن أضيق، هناك سجن إلى درجة الاختناق وهناك سجن إلى درجة اللعب في غير الممنوع العام، وهناك سجن لدرجة اللعب في غير الممنوع الخاص، وهناك سجن في المسموح العام وكذلك الخاص، مثل سجن ال28 حرفا، اللغة ذاتها سجن أوسع لكنها سجن. من الصعب العيش بدون حدود طالما مازال الواحد محدود بحدود ما وإن كانت حدود وجوده هو على قيد الحياة. أنت تقص شعرك. هذه حدود تأمر الحلاق أن يضعها لشعرك.

أنت لا تطلق لحيتك. هذه رقابة تمنع بها نشر لحيتك فوق ذقنك. من الطبيعي أن تكون هناك حدود. من الطبيعي الإنساني أقصد. حتى هذه الحرية، تصورها فقط يجعلها محددة.

استقلال القصيدة

الشاعر شريف الشافعي:

إن الحرية التي تطمح القصيدة الآنية إلى إدراكها، ببساطة هي حرية الوجود والتحقق والاكتفاء الذاتي، أي أن تكون القصيدة ذاتها هي «فعل التحرر» على كافة المستويات، لا أن تكون بيان الدعوة إلى التحرر، وأن يحدث هذا التحرر في سياق طبيعي حيوي عفويّ، والأهم أن تستقل القصيدة تماما بشعريتها، وتمشي على الأرض وتحلق في الفضاء بطاقة أدواتها وجمالياتها الفنية فقط، بدون أن تنفصل بالطبع عن معطيات واقعها ومستجدات عصرها.

إن «حياة الشعر» مرهونة في الأساس بكونه «شعر حياة»، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة ـ بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية ـ تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان.

وغاية العدالة، الحقيقية أو الافتراضية، أن يكون المحك الجوهري لامتحان حرية القصيدة واستقلالها هو القصيدة نفسها، حيويتها، طزاجتها، فرادتها، قدرتها على تمثل روح عصرها، قابليتها للاستساغة الطبيعية وإشباع الأذهان والحواس بما يُغني ويُمتع في الآن ذاته.

هذا هو السؤال الأصعب، والامتحان الحقيقي الذي تخوضه القصيدة الجديدة الآن، حيث تطمح إلى استرداد وضعها الطبيعي في هذه الحياة، من خلال شعريتها، وشعريتها فقط، وليس من خلال البوابات السلطوية والنخبوية والوسائط والوسطاء والمنظّرين والمروّجين والمسوّقين، ولا حتى من خلال القضايا المصيرية والجماهيرية والنبوءات الكبرى، التي تتمسّح بها لتستدر التعاطف والتصفيق.

الشكل أو القالب

الشاعرة عزة حسين: مبدئياً يجب الاتفاق على أن ما بين الشعر والحرية ليس علاقةً بل ترادف، تطابق ربما، فالشعر ـ في رأيي ـ حرية حتى وإن سجن، والحرية في جوهرها اتجاهٌ شعري، كلٌ من المفردتين رومانتيكيتان تماماً، يجمعهما الطابع الثوري، ويجسدهما التمرد، ويفسرهما الموت الذي يصطاد الشعراء والثوار أبكر من غيرهما.

إن أول ما نصطدم به حرية الشكل أو القالب، لأن اختيار الشاعر لقالب معين عمودي كان أو تفعيلي أو نثري أو حتى مزيج كل أو بعض هؤلاء، ما يعني الانضمام لميليشيا جمالية ومعادة الميليشيات الأخرى كما هو الحال للأسف في المشهد الراهن، كل هذا لا يمكن اعتباره إلا حرية، خاصةً وأن الانحياز الشكلي هذا يمتد ليرتبط ويشتبك مع اختيارات جمالية وأيديولوجية وفلسفية ولغوية أخرى، بمعنى أن التحرر في الشكل يرتبط به التحرر من قيود اللغة القديمة.

حيث يتم تخليصها من جهامتها، وتقشيرها من ملابسها الرسمية المنشاة، وتمرينها على اكتساب جماليات فنية جديدة من مفرداتها البسيطة الأقرب إلى الكلام، وهكذا يتم تحرير اللغة.

النصر والخراب

تتجلى الحرية أكثر في الهموم الشعرية الجديدة نسبياً على الشعر، الذي تخلص تدريجياً من أغراضه الجمعية الكبيرة، التي تعكس أحلام القبيلة أو الجماعة المرجعية أو الوطن حتى، وصار أكثر ذاتية وإنسانيةً وحقيقية، فلم يعد جديراً بالشعراء أن يتفاخروا بأنسابهم في الوقت الذي يعاني فيه الجميع من ضياع الهوية، أو الحديث عن النصر في الوقت الذي تنهزم أبسط الطموحات الإنسانية لصالح الخراب وهكذا..

الانحراف اللغوي

اان اختزال مفهوم حرية القصيدة في ملمح واحد أو عدة ملامح محدودة يخل كثيرًا بالتحرر الفعلي للقصيدة، فتعليق التحرر على الجرأة أو المعارضة السياسية يحول القصيدة إلى مانفستو أو بيان ثوري، وربط التحرر بالانفلات الديني يقود إلى طرح منشورات تجديفية، ومنح دور البطولة للفعل الجنسي المادي يصل بالقصيدة إلى خانة البورنوغرافيا، وقصر التحرر على الانحراف اللغوي والتصويري يفرغ القصيدة إلا من شكلها الخارجي.

إن هذه الأمور كلها أضرت بشعرية القصيدة الجديدة، رغم أنها ولدت من رحم الدعوة إلى الحرية.

هدم التوازن

ان حرية الشاعر هي التي تتأذى حين يدّعي الآخرون أن حرية الشاعر هذا أو ذاك قد آذتهم وتعدّت على حرياتهم. ليس ثمّة من شاعر بتقبّل أن يأتي ناشر جاهز بمقصّه ويطلب منه تغيير عنوان قصيدته أو حذف بيت منها بل وحذف قصيدة بأكملها من ديوان !!! هذا هدم للتوازن المفروض تحقيق بين لغة الشاعر ورؤيته بل هو بتر لجزء مهمّ من الشاعر وهذا يحصل كثيرا ومع عديد من الشعراء والكتّاب.

محمد الحمامصي

Email