جماليات

الخريف.. لحن عاصف تعزفه الطبيعة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أبلغ أن تحاورك الطبيعة بلغتها الخاصة جداً، وبمنطق الأقوى، فتجد حضوراً لا مفر منه، تُرى هل سيكون حوارك معها متكافئاً؟ لا. التكافؤ هنا غير وارد، جميعنا نخضع للمنطق الأقوى، وللغة الأكثر بلاغة ولحضور تتقهقر أمامه لغة الإنسان.. وكل الكائنات.

لكن ما هي هذه اللغة المهيمنة؟ وما هو ذلك المنطق الذي يفرض حضوره على العالم؟هيمنة الطبيعة ذاتها على كل الكائنات هي اللغة والمنطق معاً، عندما تتجرد الأشجار من أوراقها الناضرة، ويصفّر لونها وتتساقط لتفترش الأرض ببساط مصغر عاجي له جمالياته أيضاً، وعندما تتحول غصون تلك الأشجار إلى سهام طبيعية مجردة من الأوراق، وعندما يتراجع الصيف تدريجياً واعداً بعودته الأكثر حرارة في عام مقبل ليفسح المكان للخريف.. وهو الفصل الذي يمهد للشتاء ويبدأ في نصف الكرة الأرضية الشمالي في 23 سبتمبر، وينتهي في 20 ديسمبر، خلال هذه الفترة يتساوى الليل والنهار في العالم كله، وهنا منطق آخر أقوى لطبيعة لها حق الهيمنة على كائنات كل العالم.

وفي هذه المنظومة الخريفية التي تفرض تدرجات الرمادي الباهت والأصفر العاجي على الكون، للإنسان مكان فيها ـ في منظومة الخريف ـ كيف؟للخريف دلالات لها حسابات مختلفة لدى الإنسان برغم خضوعه لمنطق الطبيعة القوي، فالإنسان ذاته له خريف خاص جداً، خريفه، خريف له مظاهر وجماليات إنسانية، مختلفة، ربما.. يعشقها بعض الناس. ربما يرتعد منها الكثيرون.. أكيد!خريف الإنسان، هو النهاية ما قبل الأخيرة حتى تدرج العمر حسب الحسابات الدنيوية البعيدة عن اليقين والغيب والمنطق الإلهي، خريف الإنسان تعصف فيه وبه رياح العمر، ينطق بكلمات خريفية رمادية المحتوى، قد تكون عذبة في أساها كأوراق خريفية تفترش أرض الكون تخضع أفكار الإنسان في أغلب الأحيان تحت وطأة هموم الحياة. وتتغير مشاعر الإنسان بذاته، فهو أحياناً يشعر بفرط سنوات العمر من بين أنامله كحبات لؤلؤ نادر يلتف حول عنق الجميلات وفجأة ينفرط تاركاً العنق عارياً من جماليات كانت تغطي ظلال من تجاعيد بدأت تزحف، يعتبرها البعض قبحاً.

ويتعامل معها البعض على أنها جماليات لفترة عمرية لابد من معايشتها، بل الدخول معها في صداقة وود، حتى لا تنهار المنظومة الإنسانية تاركة وراءها بقايا إنسان أو حطام من سنوات الشباب.

بصمة يتركها الخريف ليس فقط على مظهر الإنسان، وإنما يغوص فيه إلى الأعماق، فالكثيرون يقعون ضحايا فصل رمادي، فيصابون بما يعرف باكتئاب الخريف، فيه تلعب الهرمونات دوراً سلبياً في بنية الإنسان.

وخاصة مزاجياته التي تصفها إحدى مدارس علم النفس التي تنتمي للواقعية، بأن مزاجيات الإنسان أيضاً يصيبها الرمادي، والعلاجات وخاصة في الغرب تخرج الإنسان من تحت العباءة الرمادية عن طريق ما يعرف باسم «العلاج بالضوء» .

وهي نظرية ناجحة في علاج الاكتئاب في هذا الفصل بالتحديد، أما في مناطق الشرق فالخريف ليس بهذه القسوة، حيث يحنو على الإنسان نسبياً وحواره معه يكون أقل قسوة وأقل هيمنة.

فالشمس والضوء الطبيعي في الشرق يمكنهما أن يخترقا رماديات الخريف فتنير الطبيعة نسبياً، ويتراجع كل مظاهر الخريف ولو إلى حين، لذلك إصابات الاكتئاب لدي الشرقيين غير كثيرة ولا منتشرة بالنسبة ذاتها مقارنة بالغرب ذي الخريف القاسي المتمادي.

ولأن كل شيء في الطبيعة له وجه آخر، فتلمس في الخريف فصلاً، وفي الخريف عمراً، هو ضوء في نهاية النفق، فخريف العمر هو مرحلة من مراحل النضج الإنساني، خلالها يتفهم الكون، ويتصرف على راحته، ويفلسف حقائق كانت بالنسبة له مجرد «عابر سبيل».

شعيرات بيضاء تأخذ مكانها على رأس الإنسان تزيده نضجاً، وتجاعيد حول العيون تزيد نظرتها عمقاً وخبرة، ونقلة هرمونية تزيد الإنسان تفهماً لكل شيء حوله، بعيداً عن صخب الشباب، وتهدأ طموحاته بعد أن كان الشباب يزين له بأنه يتمكن من احتواء كل شيء في جعبته، فالجهة الخاوية نسبياً من طموحات مدمرة هي الأكثر رزانة وعمقاً وتفهماً.

الحب في خريف العمر يترسخ ويأخذ شكلاً عميقاً ومتسعاً، فالحبيب دائماً له النصيب الأكبر، ولكن هناك مستجدات من معاني الحب، حب النفس والرضا عنها، حب المعرفة والسعي إليها، حب الله يتسع ويتعمق فالباقي من الوقت ليس بالكثير وما على الإنسان إلاّ أن يعد العدة والعتاد ـ راضياً مرضياً ـ لمقابلة وجه كريم بكل الحب والخشوع وتمنِيِ المعرفة والانتهاء في الفردوس الأعلى.مشاعر النفس تهدأ وكأنها نضجت على نار سنوات وسنوات والتعبير عن ذاتها يكون أكثر هدوءاً وبلاغة وحكمة.

للشعراء قصائد تعبر عن مشاعرهم في مرحلة خريف العمر، هي الأبلغ والأعمق في مشوار حياتهم الشعري والأدبي، معهم نقرأها، نعيشها، فهي تعبير إنساني بالمعنى الواسع، نسجه الشعراء بكل ما أوتوا به من موهبة ودراسة وتعمق في فنون اللغة، ودراية بمكامن النفس.

إبراهيم ناجي الشاعر الأكثر رومانسية، كلماته تفيض حباً وعمقاً ومصداقية، ماذا يقول؟ وبماذا يشدو؟ في قصيدته الشهيرة «الخريف»، فاضت مشاعره، وزاد تحليقه، فجاءت كلماته تنساب حباً ونضجاً واحتواءاً لكل إنسان.

«يا حبيبي غيمة في خاطري

وجفوني وعلى الأفق سحابة

غفر الله لها ما صنعت

كلما شاكيتها تندى كآبة

صرخ القفرُ لها منتحبا

وبكى مستعطفاً ما أصابه

فأصم الغيث عنه أذانه

ما على الأيام ما كان أصابه

كثر الهجر على القلب فهل

من سلو أو بعاد يرتضيه

أيها الساكن عيني ودمي

أين في الدنيا مكان لست فيه

عندما أزمع ركب العمر

رحلةً نحو المفاني الأخرِ

ظهرت تجلوك كف القدر

صورة أروع ما في الصور

تتراءة في الشباب العطر

نغمة تحمل طيب السحر

وقف لها العمر مقتدراً»

ولأن المشاعر والأحاسيس الإنسانية بكل ما حولها، لا تعرف حدود، فتغنى الغرب أيضاً وشعر بخريف العمر، فنظم الشاعر الفرنسي المعروف «شارل بودلير» كلمات تعكس مشاعر خريفه.

يقول:

«قريباً سنغرق في عتمة متجمدة

وداعاً يا صفاء صيفنا القصير جداً

الشتاء سيجتاح وجودي: غضب

برد ورعب وعمل قسريّ

وكالشمس في جحيمها الثلجي

قلبي ليس سوى قطعة جليد طافية»

ربما كانت فيض الكلمات لقصيدة بودلير هذه والتي ترجمها بهجت عباس ربما كانت أكثر تشاؤماً من العديد من القصائد الغربية وأيضاً العربية، تعكس كلماتها ومحتواها قسوة الشعور بالخريف ـ خريف الطبيعة والعمر معاً في وجدان الشاعر الفرنسي «شارل بودلير».. ولكن لكل نفس تعبيراتها ومشاعرها الخاصة جداً.

وللأدب والسينما وقفات وبصمات تُركت على «الخريف» لتأثر كل أديب أو فنان بهذا الفصل الأكثر تميزاً لتأثر الإنسان به عن غيره من الفصول، ومن هنا حرك الخريف وجدان كاتبنا المصري العالمي نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الأدب في العام 1988.

فكانت رائعته الأدبية «السمان والخريف»، والتي تحولت لفيلم سينمائي من بطولة نادية لطفي ومحمود مرسي وعادل أدهم، ومن إخراج حسام الدين مصطفى، سيناريو وحوار أحمد عباس صالح.

وتصنف الرواية والفيلم المأخوذ عنها، بالسياسية الاجتماعية ولكن كانت المعالجة فيها مختلفة عن روايات أخرى تعرضت لثورة 1952.

فيعرض لنا نجيب محفوظ إحدى النماذج الملوثة قبل الثورة وما بعدها، مركزاً إلى حد كبير على أعماق الشخصية الانتهازية التي جسدها محمود مرسي (عيسى الدباغ) .

وما عانته من الشعور بالوحدة والاغتراب النفسي بسبب هجر حبيبته له، والعديد من المشاكل التي تعرض لها مثل علاقته غير الشرعية بنادية لطفي التي جسدت شخصية «ريري» في الرواية والفيلم، ثم تورطه في الزواج بفتاة من طبقة ارستقراطية.

ولم ينجح في حبها وانتهى الزواج بطلاقه منها، وينتهي الفيلم بإعادة صقل شخصية عيسى الدباغ، حيث أصبح عضواً فعّالاً في المجتمع وكأن كل ما مر به من تجارب سابقة هو تكفير عن ذنوبه وتطهير نفسه وإيجاد ذاته.

ويعتبر جابريل جارسيا ماركيز من الكتّاب الذين كان للخريف معانٍ خاصة بداخلهم، فكانت روايته الشهيرة «خريف البطريرك» .

وهي عمل موسوعي يعكس كيانات ومجتمعات الساحل الكولومبي من قصص حب وهمية وحقيقية، إنعكاسات للطبيعة في الساحل الكولومبي، والحيوانات التي تعيش تحت أجواء المكان، خصائصها.وتعتبر روايته هذه واحدة من أروع أعماله.

حيث يتجاوز بها حدود المكان ـ أميركا اللاتينية ـ ويوجد في كيان الرواية ـ حسب ما يقول النقاد عنها ـ برغم انسياب وتسلسل الأحداث في الرواية، يوجد زمن مغلق هو الخير الذي تدور فيه الأحداث بكثافة بحركة دائرية متقلقة ونشيد مذهل ضد الدكتاتورية بأسلوب ينساب كالشعر، والموسيقى والسيناريو السينمائي.

وفيلم «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ أيضاً مأخوذ من روايته الرائعة وبالعنوان نفسه ـ اللص والكلاب ـ الفيلم أنتج في العام 1962 بطولة شكري سرحان وكمال الشناوي وشادية وفاخر فاخر، الفيلم من إنتاج جمال الليثي ومن إخراج كمال الشيخ، موسيقى أندريا رايدر.

تدور أحداثه وسط رماديات الشخصيات وكأن الخريف بكل غموضه ورماديته خيم على هذه الأحداث التي تدول حول لص من أنصاف المثقفين، يدخل السجن، وتبدأ مأساته عندما يخرج من السجن فيجد أن زوجته تم تطليقها منه خلال وجوده في السجن، قد خانته وتزوجت من صديق له، وتنكرت له ابنته الصغيرة والوحيدة، مما جعل منه شخصية انتقامية تدور أحداثها المحورية في أجواء رمادية عاصفة كعواصف الخريف.

والمثّال المصري العالمي محمود مختار الذي ولد في 10 مايو 1891 وتوفي في شهر مارس 1934، من مواليد المحلة الكبرى وكان والده الشيخ إبراهيم العيسوي عمدة القرية ـ طنبارة، التابعة للمحلة الكبرى.

ويعتبر تمثال «الخماسين» للمثّال محمود مختار واحد من أهم تماثيله التي كان يعرضها بالقاهرة والمحافظات وفي أوروبا.واستلهم محمود مختار تمثاله «الخماسين»، من رياح الخريف العاصفة والمعروفة باسم «الخماسين» لأنها تظل تعصف على فترات متقاربة مدتها خمسين يوماً، تهب على القاهرة ومحافظاتها محملة بالرمال.

خريف صلالة

تتميز صلالة بجمال الخريف فيها عندما ترتفع درجات الحرارة في مختلف دول الخليج، وفي خريف صلالة يبدأ الموسم السياحي، تكتسي خلال هذه الفترة جبال صلالة بالأخضر، وتتغلف قمم الجبال بضباب خفيف محبب، بينما زخات من المطر تهطل بخفة على المكان فيزداد جمالاً وكأنه مكان يعزف معزوفة خاصة جداً لموسم وخريف مميز.

ومما يميز خريف صلالة أصوات الطبيعة من الطيور وزخات المطر ونسمات رياح تلف المكان بلطف وانتعاش.

شواطئ صلالة في الخريف تستقبل الزوار والسياح على امتداد السواحل الفيروزية والرمال في لون العاج، ومن أشهر الشواطئ شاطئ القِرْم جنوب صلالة، وشواطئ الخندق وخور البليد في الجنوب الشرقي، بالإضافة إلى ينابيع وعيون طبيعية من أشهرها عين جرزيزة وعين حمران.

منى مدكور

Email