تاريخ فكري لمدرسة الحوليات

تاريخ فكري لمدرسة الحوليات

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور اندريه بيرغويير مدير الدراسات في المدرسة التطبيقية العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. كما إنه عضو في رئاسة تحرير مجلة الحوليات. وكان قد نشر سابقا عدة كتب عن تاريخ فرنسا على مدار العصور.

وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن واحدة من أشهر المدارس التاريخية في العالم، إنها مدرسة الحوليات الفرنسية التي طبقت شهرتها الآفاق وأصبحت أسطورة. فقد وصل تأثيرها إلى الولايات المتحدة الأميركية واللاتينية بل وحتى اليابان والهند والصين وروسيا. ومعلوم أنها جددت مناهج علم التاريخ ومصطلحاته وأدواته وقلبتها رأسا على عقب. وبالتالي فلم نعد نكتب التاريخ بعدها مثلما كنا نفعل قبلها.

ومعلوم أن هذه المدرسة أسست في مدينة ستراسبورغ في العشرينات من القرن الماضي. وكان ذلك على يد المؤرخين الشهيرين مارك بلوخ ولوسيان فيفر. ثم استمرت في الصعود حتى وصلت عام 1970 إلى مرحلة الهيمنة المطلقة. وأنجبت بعضا من كبار المؤرخين الفرنسيين من أمثال فيرنان بروديل، جورج دوبي، جاك لوغوف، الخ.

وقد ركزت هذه المدرسة على دراسة البنى الاقتصادية والاجتماعية والمادية والجغرافية والديمغرافية قبل أن تهتم بأي شيء آخر. في الماضي كان علم التاريخ التقليدي يتحدث عن سير الملوك والعظماء والسلالات الحاكمة والأحداث السياسية والمعارك العسكرية. ولم يكن يهتم كثيرا بدراسة بنية المجتمع من وجهة نظر مادية أو جغرافية أو اقتصادية، الخ.

أما الآن فقد انعكست الآية وأصبح الموضوع الأول لعلم التاريخ هو هذه البنى التحتية بالذات. فإذا لم نفهم اقتصاد بلد ما، أو جغرافيته، أو موقعه الإستراتيجي، أو موارد إنتاجه ورزقه، فإننا لن نفهم شيئا على هذا المجتمع. وبالتالي فالبنى المادية للمجتمع هي الأهم تليها بعدئذ البنى الفكرية والثقافية.

ويرى المؤلف أن مدرسة الحوليات بتركيزها على هذه الموضوعات التي كانت مهملة سابقا جددت وبعمق البحث التاريخي الفرنسي وأضاءت المجتمع البشري بشكل غير مسبوق. فمن مارك بلوخ إلى إيمانويل لوروا لادوري وجاك لوغوف، ومن لوسيان فيفر إلى فيليب آرييس وميشيل فوكو، ومن فيرنان بروديل إلى ارنست لابروس، قدمت فرنسا إلى العالم كوكبة من أعظم المؤرخين والمفكرين.

لقد اهتمت مدرسة الحوليات بدراسة المشاكل الأساسية لا الأشياء السطحية الظاهرية. فمثلا راح لوسيان فيفر يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يكون الفرنسي ملحدا في عصر رابليه، أي في القرن السادس عشر؟ وكان جوابه بالنفي. ففي ذلك العصر كان الإلحاد بشكل ما ندعوه باللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. ثم راحت مدرسة الحوليات تطرح هذا السؤال: لماذا لم تكن فرنسا في أي عصر من العصور القوة الاقتصادية الأولى في العالم؟ وذلك على عكس انجلترا أو حتى هولندا.

ثم يتحدث المؤلف عن تيارين في مدرسة الحوليات: تيار يدرس البنى المادية للمجتمع ويسمى تاريخ الماديات. وتيار يدرس البنى العقلية ويدعى تاريخ الماديات. نلاحظ أن الأب المؤسس للمدرسة لوسيان فيفر قال لتلميذه فيرنان بروديل: أدرس أنت البنى المادية للحضارة الرأسمالية على مدار ثلاثة قرون من نشأتها وتطورها.

وأنا أدرس بناها العقلية وتاريخها الفكري. وكان أن نتجت عدة كتب أساسية لا تزال تشكل مراجع لكل الباحثين حتى الآن. نذكر من بينها كتاب بروديل الشهير في ثلاثة أجزاء عن كيفية تشكل الحضارة الرأسمالية في الغرب منذ القرن السادس عشر وحتى الآن. ونذكر كتب لوسيان فيفر عن رابليه، ولوثر، وسواهما.

لكي يشرح المؤلف كل أبعاد هذه المدرسة التاريخية الكبيرة فإنه يقسم كتابه إلى ثلاثة أجزاء، وكل جزء يتفرع إلى عدة فصول وذلك ما عدا المقدمة والخاتمة. الجزء الأول يتحدث عن مرحلة التأسيس في مدينة ستراسبورغ عام 1929. كما ويتحدث المؤلف عن الخلافات التي نشبت بين المؤسسين مارك بلوخ ولوسيان فيفر لاحقا. وهي خلافات منهجية وشخصية في آن معا. فكل واحد كان يريد أن يوجه المدرسة، والمجلة الصادرة عنها، في اتجاه مختلف.

أما الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث عن المسار المقطوع على مدار سبعين سنة من عمر المدرسة وعن إنجازاتها وإخفاقاتها. وأما الجزء الثالث فيتحدث عن آخر جيل من أجيال مدرسة الحوليات. ثم يتحدث المؤلف عن كتاب فيرنان بروديل الكبير: البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عصر الملك فيليب الثاني.

وهو الكتاب الذي ألفه في السجن عندما كان معتقلا من قبل الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. إنه كتاب ضخم يتجاوز الألف وخمسمئة صفحة. وهو في الأصل أطروحة دكتوراه. ولكن كيف كتبه بروديل في السجن يا ترى؟ وهل السجن مكان مناسب لكتابة أطروحات الدكتوراه؟ وما هي التجديدات المنهجية التي أتى بها المؤلف؟ أسئلة كثيرة يطرحها أندريه بيرغويير ويجيب عليها بكل تمكن واقتدار. ومعلوم أن بروديل بلور في هذا الكتاب ثلاثة مفاهيم أساسية هي: مفهوم المدة القصيرة، والمدة المتوسطة، والمدة الطويلة لكتابة التاريخ.

ما الذي يعنيه كل ذلك؟ إنه يعني أن هناك ظواهر ضخمة لا يمكن فهمها إذا ما موضعناها ضمن منظور المدة القصيرة: أي عشر سنوات أو حتى عشرين سنة. نضرب على ذلك مثلا مشكلة العنصرية أو الطائفية. فالعنصرية الموجودة حاليا لدى بعض قطاعات المجتمع الفرنسي أو الأوروبي تعود بجذورها العميقة إلى القرن التاسع عشر بل وحتى إلى ما قبله بكثير.

وبالتالي فلا يمكن فهمها وتحليلها بشكل جيد إلا إذا موضعناها ضمن منظور المدة الطويل للتاريخ: أي مئة سنة أو ثلاثمئة سنة. أما المدة المتوسطة فتتراوح بين الخمسين والسبعين سنة. وفيما يخص المشكلة الطائفية مثلا أو المذهبية لا يمكن فهمها إلا إذا موضعناها ضمن شريحة زمنية طويلة جدا وتصل إلى ألف سنة.

هكذا نلاحظ أن المؤرخين الكبار على عكس الصحفيين المتسرعين يبحثون عن جذور الظواهر أو المشاكل ولا يكتفون بسردها سردا سريعا أو المرور عليها مرور الكرام. هنا يكمن الفرق بين الصحفي والمؤرخ. الصحفي يتحدث فقط عن الحاضر ومشاكله الملتهبة رابطا إياها بقضايا معاصرة. وبالتالي فمنظوره قصير النظر ولا يتجاوز الخمس سنوات أو العشر سنوات. هذا في حين أن المؤرخ ينبش عن أعماق الظواهر والمشاكل حتى يصل إلى جذورها العميقة والدفينة.

ولذلك فإن تحليلات المؤرخين الكبار تقنعنا وتشبعنا على عكس التقارير الصحفية السريعة على الرغم من أهميتها. فنحن بحاجة إلى صحافة أيضا ولكن إذا أردنا أن نفهم الأمور عن جد، أي في أعماق أعماقها، فما علينا إلا أن نطلع على كتب المؤرخين الكبار من أمثال بروديل، أو جاك لوغوف، أو حتى الفيلسوف ميشيل فوكو.

*الكتاب:مدرسة الحوليات، تاريخ فكري

*الناشر:أوديل جاكوب ـ باريس 2006

*الصفحات :366 صفحة من القطع الكبير

L'école des annales, une histoire intellectuelle

André Burguière

Odile Jacob - Paris2007

P.366

Email