سيرة حياة وفكر جون لوك

سيرة حياة وفكر جون لوك

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور روجيه وولهاوس أحد كبار المختصين بالفكر الحديث عموما وفلسفة جون لوك على وجه الخصوص. وهو هنا يقدم إحدى أهم السير التي حظي بها فيلسوف الانجليز الكبير. فقد اعترف معظم النقاد والمؤرخين بأهمية هذه السيرة الجديدة وأنها ألقت أضواء ساطعة على حياة مؤسس الحداثة الفلسفية والسياسية في انجلترا: الفيلسوف جون لوك.

ومعلوم أنه يعتبر أحد كبار فلاسفة التنوير ليس فقط على المستوى الانجليزي وإنما أيضا الأوروبي والعالمي. ومنذ البداية يقول المؤلف ما معناه: ولد جون لوك عام 1632 في مدينة سوميرسيت بانجلترا ومات عام 1704 في منطقة ايسيكس. وبالتالي فقد عاش اثنين وسبعين عاما. وكانت كافية لكي يملأ الدنيا ويشغل الناس بعلمه ونظرياته السياسية والفلسفية. ويعتبر جون لوك أهم فيلسوف انجليزي تنويري في العصور الحديثة. وتفتخر به انجلترا مثلما تفتخر بإسحاق نيوتن الذي اكتشف قانون الجاذبية الكونية. ثم يردف المؤلف قائلا: وأما على المستوى السياسي فيعتبر جون لوك بمثابة أحد مؤسسي النظام اللبرالي الديمقراطي الحديث إن لم يكن مؤسسه الأول. ولذا كان تأثيره على عصره والعصور اللاحقة ضخما في كل الميادين.

لقد ولد في مدينة صغيرة بالقرب من مدينة بريستول. وكان والده محاميا ثم موظفا كبيرا في خدمة البرلمان عام 1648. ولكنه أفلس وخسر كل شيء بسبب الحرب الأهلية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في انجلترا. ومعلوم أن عصر جون لوك كان عصر الطوائف والمذاهب المتناحرة.

لقد كان عصر الأصوليات المتعصبة، وكان أتباع البابا، أي الكاثوليك، يكرهون جدا أبناء المذهب المسيحي الآخر: أي المذهب البروتستانتي. كانوا يتهمونهم بالهرطقة. ولكن لسوء حظهم فإن عدد البروتستانتيين في انجلترا كان أكبر منهم بكثير. هذا وقد درس جون لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية لأنهما كانتا لغة العلم والفلسفة في ذلك الزمان. كما ودرس فلسفة أرسطو في مدرسة ويستمنستر بين عامي 1646 ـ 1652.

ثم أصبح محاميا في مدينة اكسفورد. ومعلوم أنه كانت توجد آنذاك منافسة كبيرة بين كمبردج وأكسفورد. وكلتاهما مدينتان جامعيتان من أعلى طراز. فالأولى كان يسيطر عليها أتباع أفلاطون، والثانية أتباع أرسطو. نقول ذلك ونحن نعلم أن الصراع بين الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطوطاليسية اخترق تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره.

فالأفلاطونية كانت مثالية أو روحانية جدا، وأما الأرسطوطاليسية فكانت واقعية أو مادية عموما. وقد انعكس ذلك على الفلسفة العربية الإسلامية ذاتها. فابن رشد مثلا كان واقعيا من أتباع أرسطو، وابن سينا كان مثاليا مليئا بشطحات الخيال والروحانيات على طريقة أستاذه أفلاطون.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن الفلسفة الحديثة، أي فلسفة فرانسيس بيكون وتوماس هوبز ورينيه ديكارت، كانت قد نقدت بشدة فلسفة أرسطو وأفلاطون وفتحت مجالا جديدا كليا للمعرفة. وبالتالي فقد استفاد جون لوك من ذلك كله وبنى عليه نظرياته الفلسفية والسياسية المقبلة.

ثم ارتبط الفيلسوف المقبل بعلاقة صداقة مع أحد كبار رجال السياسة الانجليز: لورد آشلي الذي كان وزيرا عند الملك شارل الثاني. ولكن الظروف السياسية انقلبت عليه فاضطر إلى المنفى في هولندا مع جون لوك لمدة ست سنوات. وفي أثناء هذه الفترة درس جون لوك أحوال أوروبا كثيرا. وفكر في المشاكل الطائفية والحروب الأهلية. وخرج بنظرية جديدة لتجاوز كل ذلك في المستقبل. خرج بكتاب شهير تحت عنوان: مقالة في التسامح. وقلده فولتير فيما بعد.

لقد بلور هذا الفيلسوف الانجليزي النظرية اللبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية وعن الحرية الفردية. وعندئذ خرج بالقانون التالي: إن حريتي تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين. وبالتالي فإذا كان هو فيلسوف اللبرالية، أي الحرية، فإن ذلك لا يعني أنه مع الفوضى. فالمجتمع اللبرالي هو ذلك الذي يحترم فيه كل شخص حرية الآخرين ولا يعتدي عليها. وعلى هذا النحو تنتظم أمور المجتمع.

وقال جون لوك إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسؤولية. فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمها بشكل صحيح لا بشكل خاطئ. والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم على العقل، وهو ذو أصل إلهي.

ثم نصّ الفيلسوف الكبير على المبادئ التالية: على الناس أن يحافظوا على حياتهم بقدر المستطاع لأنها هبة من الله. على الناس أن يحترموا حياة بعضهم البعض وملكية بعضهم البعض وإلا فإن المجتمع يدخل في حالة من المشاعية والاضطراب الخطير. وهذا ما يؤدي إلى تدمير الحياة الاجتماعية.

على كل فرد أن يحيا بشكل منسجم مع بقية أعضاء المجتمع دون اللجوء إلى العنف. فالعنف مرفوض في المجتمع اللبرالي القائم على العقل والاحترام المتبادل. العنف مسموح به في حالة الدفاع عن النفس أو الدفاع عن شخص مغدور يتعرض للضرب والعدوان من قبل شخص آخر.

لكي تسير أمور المجتمع على ما يرام ينبغي على الناس أن يحترموا المواثيق والعهود التي قطعوها على أنفسهم. فإذا أخل كل واحد بكلامه أو لم يحترم الوعد الذي قطعه على نفسه فإن المجتمع يخرب وينهار. وبالتالي فالحرية تعني احترام كل هذه المبادئ. الحرية مسؤولية في نظر جون لوك. وقوانين الطبيعة هي التي تفرض علينا ذلك. وهي قوانين عقلانية تنطبق على جميع البشر.

ثم قال جون لوك بأنه في المجتمع اللبرالي الحديث فإن للإنسان الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الاستمتاع بأملاكه الشخصية. وكل مجتمع يضمن لأفراده هذه الحقوق الأساسية يمكن القول بأنه مجتمع ليبرالي عقلاني. كما أن لكل فرد الحق في الإيمان بدينه أو مذهبه بشرط ألا يفرض ذلك بالقوة على الآخرين.

أما المجتمعات السابقة فكان يسودها قانون الغاب والذئاب. بمعنى أن القوي كان يقتل الضعيف ويعتدي على ملكيته. ولهذا السبب فإن البشرية المتحضرة خرجت من تلك الحالة البدائية الهمجية لحسن الحظ وانتقلت إلى حالة يسود فيها حكم القانون.

ثم يقول المؤلف بما معناه: يمكن القول بأن فكر جون لوك هو الذي أسس اللبرالية: أي فلسفة الحرية وذلك على كلا الصعيدين السياسي والاقتصادي. وبالتالي فالمجتمع الانجليزي المتحضر ناتج عن أفكار هذا الفيلسوف الكبير.

على المستوى السياسي كان السؤال المطروح على لوك هو التالي: هل يمكن الخروج من الحكم الديكتاتوري المفروض على الناس فرضا من فوق؟ وكيف؟ ثم هل يمكن أن نتوصل إلى نظام حكم جديد قائم على الحرية، أي على احترام كرامة الناس المحكومين؟

هذا هو السؤال الأساسي الذي كان مطروحا في ذلك العصر المضطرب الذي شهد أبشع أنواع الاستبداد والحروب الأهلية. ولهذا السبب بذل جون لوك جهودا مضنية لمحاربة الطغيان وتأسيس السياسة على أساس آخر، هو الحرية والمسؤولية. فحكم التعسف والاعتباط ينبغي أن ينتهي إلى غير رجعة.

وبالفعل فقد انتهى في انجلترا بعد الثورة المجيدة 1688 التي ساهم لوك في التنظير لها ودعمها. ويمكن القول بأن أفكاره كانت وراء اندلاع هذه الثورة الانجليزية التي أسست ولأول مرة في التاريخ دولة الحق والقانون.

وهكذا سبقت انجلترا فرنسا بمئة سنة إلى النظام الديمقراطي اللبرالي الحر، ولهذا السبب مجدها فولتير بعد أن زارها عام 1728 ورأى كل التقدم الذي حققته. وأسف لأن فرنسا لا تزال محكومة من قبل نظام أصولي فائد ومستبد بشكل مطلق. والمقصود به نظام لويس الخامس عشر. ومعلوم أن فولتير كان معجبا جدا بأفكار جون لوك. وقد حاول ترجمتها ونقلها إلى فرنسا لكي تشيع فيها جو الحرية والتسامح والديمقراطية.

وبالتالي فلا يمكن فهم النظام السياسي الحديث الذي تشكل في أوروبا لاحقا إلا إذا درسنا فلسفة جون لوك. فقد كان المنظّر الأكبر لهذه الثورة الديمقراطية التي زعزعت العروش وأنظمة الطغيان والاستبداد من أساسها. يضاف إلى ذلك أن جون لوك أسس فلسفة التسامح الديني في أوروبا ودعا إلى محاربة الأصوليين والطائفيين الذين يزرعون البغضاء بين أبناء المجتمع الواحد.

*الكتاب: لوك، سيرة حياة وفكر

*الناشر:مطبوعات جامعة كامبردج 2007

*الصفحات : 558 صفحة من القطع الكبير

Locke, a biography

Roger Woolhouse

Cambridge University Press

p.558

Email