ابن خلدون رائد العلوم الاجتماعية والإنسانية

ابن خلدون رائد العلوم الاجتماعية والإنسانية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف كتاب «ابن خلدون، رائد العلوم الاجتماعية والإنسانية» هو الباحث والأكاديمي العراقي فؤاد البعلي الذي ولد ببغداد، وتابع دراسته الجامعية وما قبل الجامعية هناك. حصل على شهادات الماجستير والدكتوراه في علم الاجتماع من الولايات المتحدة الأميركية. بدأ حياته التدريسية الجامعية عام 1960 في الولايات المتحدة.

عمل بجامعات عدة منها جامعة بغداد، وجامعة فلوريدا، والجامعة الأميركية ببيروت، وجامعة الكويت، وجامعة كنتاكي الغربية في الولايات المتحدة حيث يعمل حتى الآن، وحصل من هذه الجامعة الأخيرة على جائزة تقديرية في التدريس.

نشر منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي عدة أبحاث ودراسات من أهمها: «الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية عن إخوان الصفا»، «علاقة الناس بالأرض في جنوب العراق»، «وحدة العرب وفرقتهم: الماضي والحاضر»، «علم تنظيم الاجتماع السكاني»، كما أصدر كتبا بالاشتراك مع باحثين آخرين، ومنها: «مدخل إلى علم الاجتماع»، «علم الاجتماع الحضري»، «أوجه الانحراف».

واللافت في سيرة هذا الباحث هو أن اهتمامه الرئيسي يكاد ينصب على فكر ابن خلدون، وتراثه المعرفي، فقد اصدر من قبل كتبا عدة عن ابن خلدون، موضوع كتابه الذي نعرض له، ومن أهم هذه الكتب، «ابن خلدون وأنماط التفكير الإسلامية» بالاشتراك مع المفكر العراقي علي الوردي.

وكذلك كتاب «المؤسسة الاجتماعية: الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون»، و«ابن خلدون وعلم الاجتماع الحديث»، وهو في كتابه الجديد «ابن خلدون، رائد العلوم الاجتماعية والإنسانية» يواصل البحث بشكل معمق في فكر ابن خلدون، ويسعى إلى تبيان جوانب مختلفة من تراث هذه الشخصية العلمية البارزة التي تحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث.

وهو ما يؤكده الباحث إذ يشير في مقدمته، كنوع من التبرير لبحثه هذا، إلى ما يقوله المفكر العربي عبد المجيد مزيان: «إننا لنتعجب من الذين يلومون على الباحثين مبالغتهم في الاعتناء بابن خلدون.

إذ ما زلنا نرى أن الأبحاث التي صدرت عنه غير كافية حتى الآن للإحاطة بجميع جوانب ومهام وأهداف علم العمران الخلدوني»، وهو ما يؤيده الباحث البعلي ويدفعه للإسهام في إلقاء المزيد من الضوء على نتاج هذا المفكر الكبير، كما يفعل في هذا الكتاب.

ابن خلدون هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون والي الدين التونسي الحضرمي. ولد في تونس سنة 1332 ميلادية، وتوفي في القاهرة سنة 1406 ميلادية.

وهو يعتبر أحد أهم الباحثين في مجال التاريخ، وعلم العمران، ولعل الأثر الأبرز الذي تركه هذا المفكر هو «المقدمة» الشهيرة، الفاعلة، والمؤثرة، حتى اللحظة، ويعود السبب في ذلك، وفق رأي الباحثين، إلى أن الأسئلة التي طرحها الكتاب لا تزال هي الأسئلة المطروحة على التاريخ حتى اليوم.

ف«المقدمة» تعتبر أول نص في التاريخ يربط الأحداث بأسبابها الاجتماعية والمناخية والجغرافية، ويقول بمبدأ «التوليد»، بمعنى أن الأحداث تولد من بعضها البعض، لا في تعاقب زمني بسيط، وإنما في تعاقب تعددي مركب.

ولعل ابن خلدون هو أول من انتقد، في شكل علمي ممنهج، المؤرخين المسلمين الذين سبقوه مثل: ابن اسحق، والطبري، والازدي، والواقدي... وسواهم ممن قال عنهم في مقدمته: «إن التاريخ على أيديهم صور تُجرّد من بوادرها.

وهم على الجملة، إذا تعرضوا لذكر دولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها. ولا آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها».

وفق هذه الآراء فان ابن خلدون ابتكر منهجا جديدا لكتابة التاريخ، فلم يعد الأمر يقتصر على تدوين الوقائع فحسب، بل في تعليل الوقائع تعليلا علميا يقوم على الملاحظة والمقارنة والموازنة والمعارضة، ولاسيما دراسة البيئة، وأصول العوائد، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران.

هذه المسائل وغيرها يتناولها البعلي في كتابه، وهو يطرح في بداية كل فصل سؤالا جوهريا من قبيل: هل ابن خلدون بعيد عن العلوم الاجتماعية؟ هل هو فيلسوف؟ هل هو مؤرخ؟ هل هو عالم اجتماع؟ هل هو عالم انثروبولوجيا؟ هل هو عالم جغرافيا اجتماعية؟ هل هو عالم اقتصاد؟ هل هو عالم سياسة؟ وسواها من الأسئلة الهامة التي تتفرع عنها أسئلة ثانوية.

ثم يمضي الباحث منقباً في المصادر الكثيرة التي بلغ عددها أكثر من ثلاثمئة مصدر، بحثا عن الأجوبة، محاولا حشد الأدلة الكافية حول أي حكم يصدره، وهو حريص على أن يدرج الآراء المختلفة، المتباينة المتعلقة بشخصية ابن خلدون الإشكالية.

غير أن هذه الموضوعية التي يتحلى بها البحث لا يستطيع إخفاء إعجاب المؤلف بان خلدون، فهو يستفيض في الاستشهاد بالآراء التي تمدح ابن خلدون، في حين يقلل من ذكر تلك الآراء الناقدة له، ولعل ما يبرر له هذا التوجه هو أن ابن خلدون، وكما يقول البعلي، «حصل على قليل من القدح، وكثير من المدح».

والملاحظ أن الباحث يفرد الفصل الأول للحديث عن الجوانب الذاتية في شخصية ابن خلدون وانتماءاته، والنزعات التي كانت تمور في داخله، وينطلق الباحث هنا من سؤال: هل ابن خلدون عبقري؟ الكثير من الآراء أجمعت على هذه الصفة، إذ يعتقد ارنولد توينبي صاحب «قصة الحضارة» بأن «ابن خلدون يستحق صفة العبقرية وذلك لإنجازاته ومآثره الفكرية.

ففي وقت قصير أنشأ فلسفة تأريخ يمكن اعتبارها أعظم الأعمال في هذا المجال، بحيث لم يستطع أي عقل في أي مكان القيام بها من قبل»، وثمة نعوت كثيرة قيلت فيه أجمعت على اعتباره «ظاهرة فريدة في ميدان الفكر الاجتماعي»، وبأنه من «أعظم المفكرين النظريين»، و«واسع التصور والذكاء»، و«صاحب فكر عقلاني نافذ وتفكير معرفي خارق»... وسواها.

وفيما يتعلق بأصله العربي يقول البعلي إن «معظم المراجع التي اعتمدنا عليها ذكرت، بدون تردد، أن ابن خلدون عربي الأصل، لكن عددا ضئيلا من المراجع ذكرت أن ابن خلدون لم يكن عربيا، وانه، حسب بعض الآراء، ولد وترعرع في مجتمع البربر وتكلم بلسان وطنه البربر».

ومن أهم المعارضين لهذا الرأي هو فرانز روزنتال الذي يقول «إن أصل ابن خلدون العربي عن آبائه وأجداده لا يمكن الشك فيه، وإن كان بالإمكان وجود دم البربر والأسبان في أوردته أيضاً. وما يقرر الأمر هو اعتقاده بأنه من أصل عربي، وهذا، بحد ذاته، يمنحه هذا اللقب النبيل».

ويناقش الباحث موقف ابن خلدون من العرب ويحاجج بأن نقده للعرب وللبداوة يمثل نوعاً من الموضوعية في وصف الواقع، ولا يعني ذلك بأنه كان يضمر الكره لمجتمع يعيش بين ظهرانيه، وتختلف الآراء كذلك حول تدين ابن خلدون وتصوفه.

ولكن ما يتفق بشأنه الباحثون في الشرق والغرب، هو «المقدمة» التي أنجزها ابن خلدون والتي حظيت بمدح كبير إذ تعتبر المقدمة «عملاً أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال قارة إفريقيا، بما لها من تقاليد وعادات وعلاقات اجتماعية»، وقد اعتبرها بعض الباحثين «اسبق دراسة للحضارة الإنسانية وفلسفة التاريخ».

بينما ذهب آخرون إلى القول بان المقدمة «لا تزال أفخم وأشهر نصب تذكاري»، في حين يقول توينبي: «ليس هناك عمل يضاهي المقدمة لاسيما في إبداعها».

وكان ابن خلدون واثقا بأنه اكتشف علما جديدا مستقلا بنفسه وموضوعه، واسماه «العمران البشري والاجتماع الإنساني»، وهو يقول «الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص».

وقد سبقت بعض أفكاره الفكر الاجتماعي الحديث، وأيا كانت الآراء حول هذا المفكر فانه يعد واحدا من ابرز المفكرين العرب الذين تركوا تأثيرا كبيرا على مدارس علم الاجتماع الحديث، وعلم التاريخ، وطرحوا أفكارا نيرة لا تزال تثير الجدل والنقاش.

* الكتاب: ابن خلدون، رائد العلوم الاجتماعية والإنسانية

* الناشر:دار المدى ـ دمشق 2006

* الصفحات:184 صفحة من القطع المتوسط

إبراهيم حاج عبدي

Email