أسطورة بينلوبي

أسطورة بينلوبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعيد رواية «أسطورة بينلوبي» الصادرة عن دار كانون غيت في لندن، للكاتبة الكندية، مارغريت أتوود، سرد ملحمة هوميروس ،« الأوديسة»، وذلك في إطار ما يعرف عن هذه المؤلفة من ميل نحو التجريبية. على الرغم من أن رواية أتوود تأتي بشكل مختلف وغير ملتزم تماماً بالرائعة التي يقدمها هوميروس في الملحمة الشهيرة، إلا أنها تعيد سردها على نحو مثير للسؤال، حول مدى ما تتمتع به الأسطورة من جمال من جهة، وتجاوزها حدود الزمان من جهة أخرى.

بينما تجسد بينلوبي ابنة ملك إسبرطة إيكاريوس، وقريبة هيلين الجميلة، نموذج الزوجة الوفية التي تكرس ما تبقى من حياتها في انتظار زوجها الغائب أوديسيوس. تأتي رواية أتوود كنوع من البوح الذي يسلط من خلاله المزيد من الضوء على تلك الحياة. في رواية أتوود المزيد من التفاصيل التي تدور حول طفولة بينلوبي ونشأتها وزواجها إلى ما تسميه أتوود، الشائعات التي تحوم حولها.

تقول أتوود في تعليقها على روايتها «لقد أوكلت مهمة السرد القصصي إلى كل من بينلوبي وخادماتها الاثنتي عشرة المشنوقات. الخادمات في الرواية يمثلن الكورس الذي تسند إليه مهمة الإنشاد والغناء. الأمر الذي يتم من خلاله طرح سؤالين مهمين بعد كل قراءة لملحمة الأوديسة الأصلية. الأول: هو ما هي الأسباب التي تحمل أوديسيوس على قتل الخادمات،

وأما الثاني فهو: ما هي حقيقة بينلوبي ؟ إن القصة التي ترد في «الأوديسة» لا تسلط الضوء على هاتين الجزئيتين، على الرغم من تأثرنا الشديد بقصتي الخادمات وبينلوبي نفسها . مارغريت أتوود صوت روائي وشعري بارز في الأدب الكندي المعاصر وربما كانت الأهم، وهي تستقي موضوعاتها من خلفية تأملية في عوالم إنسانية وغير إنسانية .

في كتاب «أسطورة بينلوبي» وأثناء بحثها في عالم هوميروس الابداعي ومحاولتها رسم صورة أخرى لما يحدث في ملحمته الأوديسة، يشاركها القارئ تلك الرغبة في رسم صورة استثنائية. إن هذه الصورة لا تبدو مخيفة بالنسبة له بالنظر إلى انطوائها على المجازفة بتفتيت الصورة الأصلية، بل على العكس من ذلك تنجح في إبقاء رواية أتوود على مسافة قريبة من الواقع .

على الرغم من أن رواية بينلوبي تختلف من حيث الشكل عن غيرها من أشكال الرواية التقليدية. إلا أنها تستقي موضوعها الرئيسي من أحد أشكال القصص الأسطورية والكلاسيكية، ولكن هذه المرة تعيد اتوود بينلوبي زوجة أوديسيوس الميتة إلى الحياة لكي نستمع إلى معاناتها الطويلة.

وبالإضافة إلى ذلك، نستمع إلى معاناة الاثنتي عشرة خادمة اللواتي يشنقن بوحشية، فور عودته إلى إيثاكا في أعقاب الانتصار العظيم الذي حققه في حرب طرواده وما يلي ذلك من تيه يستمر طويلاً. على الرغم من انهماكها في الغوص داخل تفاصيل ملحمة قديمة،

إلا أن رواية أتوود لا تبدو مقطوعة الصلة بعالمنا المعاصر، حيث ثمة مسحة، بنترية، نسبة لـ «هارولد بنتر» يكتشفها القارئ بسهولة في أشياء كالغموض الذي يلف أنحاء البلاط الملكي في إيثاكا أثناء غياب أوديسيوس، الأسرار، حالة الصمت، الشائعات والأقاويل إلى جانب أمور تشعره باستمرار الصراع من أجل الحياة.

في حين تسعى بينلوبي، الزوجة الوحيدة إلى التكيف مع أوضاعها المستجدة لاسيما الأعداد الكبيرة من الأمراء والنبلاء الذين يطلبون ودها سعياً للوصول إلى الملك مما يضطرها إلى إمهالهم سنوات طويلة بحجة إتمام نسيجها الذي لا يتم.

تهتم روايات أتوود غالباً بمنح الأصوات النسائية مساحة كافية للبوح وللتعبير عن مشاعرها مثلما يرى القارئ في رواياتها «الياس غريس»، و«عين القطة»، و«القاتل الضرير». وعلى نحو متواز تأتي صورة المرأة الطيبة وصورة المرأة الشريرة وحسب مقولتها فإن «المرأة الشريرة تستغل هنا كمفتاح لما تريد إطلاعنا عليه من أسرار لا يمكننا أن نراها بشكل عادي.

وكذلك تعمل هذه الصورة كمرآة يمكن من خلالها مشاهدة أشياء أخرى غير المظهر الجميل، كهذه الشخصيات التي تجعلها تنجح في طرح سؤال حول شيء كالمسؤولية، لأنك لو أردت أن تكون قوياً فلابد من الالتزام بالمسؤولية كما تقول أتوود.

وباعتراف أتوود نفسها فإن ما تعاني منه بينلوبي بوجه عام هو الإهمال الذي يعود السبب فيه إلى بعض ممارساتها السلبية أكثر منه إلى غياب زوجها وتحمله المسؤولية. إن الانكفاء على غزلها، والانتظار الطويل، والبكاء، هي بعض المظاهر التي تحاول أن تشير من خلالها إلى حزنها الشديد على فراق أوديسيوس الذي يطول.

والواقع أن ما يحرض أتوود على شيء كإعادة سردها لهذه الملحمة اليونانية القديمة كان ولا يزال متبعاً لدى العديد من الكتاب الغربيين الحداثيين «إن ما يهمني بشكل أكبر هو الكتابة عن شخصيات مثل كليتمنيسترا وهيلين. هذه المواضيع تبدو أكثر دراماتيكية». غير أن أتوود لا تتوانى عن إعطاء صوتها الأنثوي لبطلتها بينلوبي وهو ما يساعدها على التحليق عالياً في نظر القارئ.

إن هذه النبرة الساخرة والملامح الصارمة، اللغة القريبة من لغة دوروثي باركر في رواية « ربات المنازل اليائسات». إن هذه المرأة الوحيدة القوية الاحتمال تبدو كما لو أنها قد وضعت في مفارقة صعبة. لقد لاذت بالصمت طوال حياتها، وها هي الآن ترفض هذا الصمت بعد موتها حيث لم يعد هنالك ما يقلق.

لو تساءل أحدنا، إلى أي مدى تظل الأسطورة ماثلة في أذهاننا ؟ فلا بد من أن الإجابة ستكون على هذا النحو، بالنسبة لأتوود، إن شيئاً كالميثولوجيا القديمة يمكنه أن يستمر من دون انقطاع في إمدادنا بالحقائق المتعلقة بالحياة. حيث أن وظيفته هي التحول إلى خارطة كبيرة للنفس.

وهي خارطة ضخمة تحتوي على ما يمكن تعريفه بأنه إنسانيتنا، إن دور الميثولوجيا يأتي، في واقع الأمر، للإفصاح عن المكونات المختلفة للنفس البشرية المنطوية على كل من المخاوف والرغبات الإنسانية، وهي في حد ذاتها ما يسير العالم من حولنا. إن هذا العالم لا يسيطر عليه العقل أو المنطق، ولكن ما يحكمه هو هذه الرغبات والمخاوف حتى في ظل الظروف التي نعتقد بأنها تحتاج إلى تفكيرنا الجاد.

وعلى الرغم مما تدعي الأسطورة بأنه وحش الثلج الذي يعيش في المناطق الشمالية والذي لم يظهر في غابات حوض نهر الأمازون، إلا أن ما يوجد هناك من ظواهر أساسية كالحب والكراهية والحياة والموت، والمجاعة، والأساطير التي تتحدث عن القدر، وميثولوجيا البعث والعالم الآخر، كلها ثوابت واحدة .

ويمكنك أن تضيف بعد ذلك أن كل من اللغة والقص يجسدان أهم الاختراعات الإنسانية .حيث ما أن تصبح لديك القدرة على التعبير بصيغة كل من الفعل الماضي والمستقبل حتى تكون لديك أسطورتك الخاصة.

إن جمال الأسطورة عابر لحدود الزمان والمكان معاً ومع ذلك فإن ما يوازي هذه الطروحات المتعلقة بالجمال لا يمكن أن يكتمل بالنسبة لها دون تلك الأجندة الأنثوية التي عودتنا على اقتفائها في كل أعمالها الروائية، والتي تفتتح هذه المرة بالمشهد الذي تستدعى فيه بينلوبي زوجة أوديسيوس من العالم الآخر لا لشيء إلا لكي تقوم بسرد روايتها الحزينة وتسمعنا من خلال النواح معاناتها التي لا تحتملها غير امرأة قوية صابرة وإلا فكيف تسنت لها السيطرة على الحصن .

إن أوديسيوس غائب وما على المؤلفة إلا أن تعيده إلى زوجته التي طال انتظارها لكي يصل بها إلى حد اليأس. إلا أن عودته ستكون مرهونة بتحويله نحو القيام بمهمة معينة تتمثل في شنقه الاثنتي عشرة خادمة المخلصات اللواتي كن يعملن في خدمة زوجته طيلة فترة غيابه.

على الرغم من هذه الأجواء الكئيبة، القابضة، التي تهيمن على الجزء الأكبر من رواية أتوود إلا أن ما يبعث على الشعور بالابتهاج لدى قراءتها هو تقنيتها السردية الاستثنائية وهذه الموهبة التفكيكية التي تطال رائعة هوميروس الملحمية لكي تعيد تركيبها مرة أخرى.

إن أتوود تعيد حتى تشكيل عناصر مهمة في الملحمة الإغريقية القديمة لكي تسند إليها الدور الذي ينسجم مع روايتها الجديدة، عناصر أولها فرقة الإنشاد، الكورس، المؤلفة من الخادمات الاثنتي عشرة، التي تتولى مهمة الغناء بصوتها الأنثوي العذب.

وعلى أية حال فإن أكثر ما يميز رواية هذه المؤلفة هو هذا الصوت النسوي، إن رواية أتوود هي المقياس الذي يرصد تفكير المرأة . على الرغم من أن بطلاتها من النوع الذي يجسد باستمرار صورة المرأة العادية، وفي معظم الأحيان هي إشارة إلى أنهن الشريحة الأضعف في المجتمع.

الكتاب: أسطورة بينلوبي

الناشر: دار كانون غيت للنشر لندن 2005

الصفحات: 192 صفحة من القطع الكبير

The Penelopiad

Margaret Atwood

Canon gate - London 2005

P.192

Email