مراسلات أونوريه دي بلزاك

مراسلات أونوريه دي بلزاك

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب أو بالأحرى مترجمه الى اللغة الانجليزية هو الناقد الأميركي سي. لامب كيني، وقد ارفق النص المترجم بمقدمة مطولة وشروحات عديدة وهوامش، وهو هنا يقدم مراسلات الكاتب الفرنسي الشهير بلزاك من جزأين ضخمين يقاربان الثمانمئة وخمسين صفحة من القطع الكبير، ومعلوم ان رسائل بلزاك تشكل في بعض الأحيان جزءاً لا يتجزأ من أعماله الأدبية نظراً لروعتها وجمالها وهي تشكل على أي حال معيناً لا ينضب من المعلومات عن شخصيته وحياته.

وبالتالي فتلقي أضواء ساطعة على أعماله ورواياته ولا يمكن فهم هذه الأخيرة بدونها، وقد كتب بلزاك رسائل عديدة الى أمه وأخته وعشيقاته، وأصدقائه الى درجة ان جمعها في اللغة الفرنسية استغرق عدة مجلدات ضخمة! وبالتالي فالترجمة الانجليزية لا تحتوي إلا على مختارات واسعة منها وليس كلها.

ورسائل بلزاك الى عشيقته الأساسية مدام هانسكا والتي اصبحت زوجته في نهاية حياته تتجاوز المجلد الضخم ذا الألف صفحة! فما بالك برسائله الأخرى اذن؟ والواقع أن أدباء القرن التاسع عشر كانوا يعتمدون على المراسلات كثيراً، مثلما اعتمد أدباء القرن العشرين على التليفون ومثلما سيعتمد أدباء القرن الواحد والعشرين على الفاكس، والإيميل، والانترنت، والهاتف النقال للتواصل فيما بينهم.

وهذا يعني ان لكل عصر طريقته في التواصل بحسب تطور الوسائل التكنولوجية في ذلك العصر فمن يفكر الآن بكتابة رسالة أدبية مطولة الى أصدقائه وإرسالها عن طريق البريد؟ حتى بضع سنوات كان ذلك أمراً ممكنا وطبيعياً أما الآن فلا. الآن نكتفي بالرسائل الإلكترونية.

في البداية يقدم المؤلف لمحة عامة عن تاريخ حياة بلزاك ويقول بما معناه: «ولد بلزاك في مدينة «تور» الفرنسية عام 1799 ومات في باريس مبكراً عام 1850، وهذا يعني انه لم يعش أكثر من واحد وخمسين عاماً، ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس برواياته التي تجاوزت الثمانين! وقد جمعت كما هو معلوم في مجلدات ضخمة تحت عنوان «الكوميديا البشرية أو بالاحرى: المهزلة البشرية».

وقد ترجمت روايات بلزاك الى لغات العالم أجمع، وأخرجت بعضها في أفلام سينمائية أو على خشبات المسرح، ولم يبق روائي كبير أو صغير إلا واطلع عليها، ومعلوم ان دستويفسكي تأثر به كثيراً، هذا من جملة آخرين عديدين.

ويبدو أن الأحداث المهمة في حياته الشخصية كانت ما يلي: ضعف حنان أمه تجاهه أو برودتها الصقيعية غير المفهومة، ويبدو أنها كانت تخون أباه، لأنه تزوجها وهي صغيرة فهو كان فوق الخمسين وهي في العشرن: ثلاثين سنة فرقاً في العمر.

ومن الأحداث المهمة في حياته محبته الكبيرة لأخته «لور» التي ولدت بعده مباشرة، وله معها مراسلات عديدة، ونسجل أيضاً ذلك الحادث المؤلم ألا وهو: موت أخته الثانية لورنس وهي شابة في الثالثة والعشرين من عمرها. وقد فجعت العائلة كلها بها، نقول ذلك وبخاصة انها كانت قد تزوجت منذ فترة قصيرة، وكان زواجاً تعيساً وغير موفق والشيء الذي كان يزعج بلزاك هو محبة أمه الزائدة لأخيه الصغير هنري فرانسوا الذي يعتقد بأنه ابن زنا، وليس ابن أبيه الشرعي!

وكانت أمه تحبه كثيراً، وتفضله على بلزاك الذي أهملته وربما لهذا السبب أصبح بلزاك عبقرياً فيما بعد لكي يثبت لأمه انه أهم بكثير من هذا الأخ التافه الذي حظي باهتمامها واستأثر به كلياً من يعلم؟ فالتحليل النفسي هو وحده القادر على كشف خفايا النفوس أو أغوار القلوب.

ومع ذلك فقد كتب عدة رسائل إلى أمه ولكنها أقل أهمية من تلك التي كتبها الى أخته المفضلة، والأثيرة لديه: لور كما كتب رسائل غرامية عديدة الى النساء اللواتي تعرف عليهن، فقد ربطته علاقة حب أفلاطونية مع إمرأة تدعى زولمى كارو، وتراسل معها كثيراً ولكنه تعرف على سيدة ارستقراطية تدعى مدام دوبيرني وكانت تكبره باثنين وعشرين عاماً، أي من عمر أمه.

وقد عاش معها مغامرات عاطفية كاملة وأحدث ذلك نوعاً من النقمة في أوساط عائلته والمجتمع ككل ثم تعرف بعدها على سيدة ارستقراطية أخرى وكانت تكبره أيضاً بخمسة عشر عاماً! ويبدو أنه كان معجباً بالطبقة الارستقراطية لأنه من أصل بورجوازي عادي وان لم يكن وضيعاً.

ومعلوم ان الطبقة الارستقراطية المتمثلة بالعائلات الكبرى هي التي حكمت فرنسا طيلة عهد بلوك، وكانت هيبتها لاتزال قائمة في عصر بلزاك على الرغم من الثورة الفرنسية.

ثم تعرف أخيراً على السيدة «ايفا هانسكا» الأجنبية لانها من أصل روسي أو بالاحرى اوكراني وكانت ارستقراطية أيضاً وتملك الأراضي الواسعة في بلادها، كانت اقطاعية من الدرجة الأولى، وهي التي بادرت الى التعرف عليه بعدما اطلعت على روايته وأعجبت بها كل الإعجاب.

ولذلك راسلته، ثم أعطته موعداً في سويسرا حيث تعرفت عليه لأول مرة، وقالت بعدئذ. ان بلزاك الروائي أهم بكثير من بلزاك الإنسان أو الشخص، وقد قتلته هذه العبارة عندما سمعها من فمها لأول مرة، وكان ذلك قبل ان يحدث ببضعة أيام فقط! فقد كان يتمنى لو أنها احبته لنفسه أيضاً وليس فقط لعبقريته الحداثية.

في عام 1822 وكان عمره ثلاثة وعشرين عاماً فقط حيث العمر يكتب بلزاك: «أنت حزينة، أعرف ذلك، ولكن توجد في أعماقك قارات من الحب والإنسانية لم تكتشفينها بعد، بامكانها ان تكون عزاء لك، بإمكانها ان تعيدك الى الارتباط بالحياة من جديد».

«عندما رأيتك لأول مرة عرفت ان أعماقك حزينة وقلبك طيب وعميق، وأنا أحب مسبقاً الناس الذي يتألمون، وبالتالي فقدانك هو الذي شدني اليك وليس العكس». ثم يردف المؤلف قائلاً: ينبغي العلم ان بلزاك كان يكتب رواياته الاولى باسم مستعار. وهي روايات تجارية هدفها الربح المادي والتسلية ليس إلا.. ولم يكتب باسمه الشخصي إلا عام 1829. وكان قد بلغ من العمر ثلاثين عاماً بالضبط، وفي ذات العام أصدر رواية ثانية بعنوان: فسيولوجيا الزواج من قبل شاب أعزب! وهي عبارة عن تشريح للزواج واشكالياته من ذلك العصر.

وفي عام 1830 أصدر مجموعة قصص قصيرة بعنوان:« شاهد من الحياة الخاصة»، وموضوعها هو فشل الحياة الزوجية فهل انعكست قصة اخته لورنس التعيسة مع زوجها على عالم بلزاك الروائي؟ لماذا لا نجد زواجاً موفقاً أو ناجحاً في رواياته؟

ثم صدرت بعدئذ رواياته الشهيرة: يوجيني غرانديه، الأب غوريو، خوري القرية، الخ، لقد عكس بلزاك في رواياته المتتالية كل الحياة الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والثقافية لعصره: الى النصف الأول من القرن التاسع عشر.

من هنا عظمته وأهمية أعماله. فالروايات التي كتبها هي مرآة لذلك العصر، ومن يريد ان يتعرف على تلك الحقبة من تاريخ فرنسا ما عليه إلا ان يفتح روايات هذا الكاتب العبقري. ومعلوم ان البورجوازية كانت تواصل صعودها في ذلك الوقت بكل فهم وجشع لكي تأخذ المال والسلطة من أيدي الطبقة الارستقراطية، وفي الوقت ذاته فإن بلزاك يصور أوضاع الطبقة الارستقراطية التي كانت لا تزال تحتل الوظائف العليا في الدولة.

ولكن كان يبدو للجميع أنها سوف تفقد امتيازاتها عما قريب وسوف تطيح بها الطبقة البورجوازية الصاعدة، فالجديد يحل محل القديم لا محالة. وعلى هذا النحو استطاع بلزاك ان يصور احتضار عالم بأسره وولادة عالم آخر جديد على انقاضه، من أهميته التاريخية والفلسفية وليس فقط الروائية، فالواقع انه كان مفكراً أيضاً وليس فقط كاتباً روائياً، وكان صديقاً لكبار كتاب عصره كفيكتور هيغو ولامارتين، واليكسندر دوما، وجورج صاند، وعشرات غيرهم.

وكان مطلعاً على كتابات فلاسفة التنوير وبالأخص جان جاك روسو، وهناك مؤلفات تشرح لنا مدى تأثير روسو عليه. وهناك مراسلات عديدة بينه وبين أدباء عصره وكتابه الكبار، ومعلوم ان علاقته بفيكتور هيغو كانت قائمة على إعجاب متبادل، وكان هيغو يدعوه بالشاعر، وهذا يعني انه كان يعرف قيمته الأدبية الكبيرى بصفته اكبر شاعر في الرواية الفرنسية!

وقد رثاه فيكتور هيغو بشكل مهيب ورائع عندما مات، بل وصور لنا لحظات احتضاره بشكل أخاذ ومخيف ومؤثر جداً. وقد تأسف عليه لانه مات شاباَ، فالواقع انهما ولدا في الفترة نفسها تقريباً بل وكان بلزاك اكبر من صاحب «البؤساء» بثلاث سنوات،

ومع ذلك فإن فيكتور هيغو عاش حتى عام 1885 هذا في حين ان بلزاك مات عام 1850! ومع ذلك فقد خلد التاريخ بلزاك كواحد من أكبر أدباء فرنسا على مدار القرون، والواقع ان رسائله الى حبيبة عمره الأوكرانية تقدم لنا معلومات تفصيلية مهمة جداً عن الكوميديا البشرية صحيح اننا نشعر بالملل أحياناً اثناء قراءة هذه الرسائل، ولكن ينبغي ان نصبر عليها لكي نعرف كيف نستمتع بها ونستخلص الجوهر من القشور او الحنطة من الزوان.

فهي مليئة بالتفاصيل الصغيرة عن الحياة اليومية والمشاغل العادية التي تجعلنا نرى بلزاك شخصاً عادياً كبقية البشر. ولكن من حين لآخر نقع على إضاءات نادرة عن همومه النفسية والإبداعية، كما ونقع على معلومات تفصيلية تفسر لنا ما غمض من رواياته وأعماله، من هنا أهمية نشر هذه المراسلات لأول مرة باللغة الانجليزية بعد ان كانت قد صدرت بالفرنسية منذ زمن طويل.

والواقع ان المبدع لا يبوح بمكنون صدره إلا لاصدقائه المخلصين أو للمرأة التي يحبها، وربما كان يبوح لها بأسرار عديدة لا يستطيع ان يقولها لأي شخص آخر حتى من بين أقرب المقربين إليه نقول ذلك وبخاصة انها كانت أمرأة مثقفة وتعرف معنى الإبداع وتحب روايات بلزاك حتى قبل ان تتعرف عليه شخصياً.

يضاف الى ذلك ان هذه الرسائل الجمة تشبه كنزاً أو منجماً مليئاً بالجواهر: أي بالمعلومات والمعطيات عن فترة بأسرها في تاريخ فرنسا وهي الفترة النابليونية وما تلاها، وبالتالي فهي تهم المؤرخين أيضاً وليس فقط النقاد الأوروبيين أو هواة الرواية البلزاكية.

الكتاب: مراسلات أونوريه دي بلزاك

الناشر: كيسنغر بوبليشنغ نيويورك 2005

الصفحات: 836 صفحة من القطع الكبير

The corres pondence of honre de Balzac c.lamb Kenny

Kessinger publishing - new york 2005

P.836

Email