«طماشة».. أول عهد أهل الإمــــارات بالسينما

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك في أن الفن السابع من أهم الفنون البصرية التي اخترعها العقل والمخيلة البشرية، لا يمكننا أن تتحدث عنه إلا ونحن مفعمون بملمح تصورات قوة تشكل وتهيؤ قالب رؤيوي فريد، قوامه أسطورة الكلمة والصورة معاً، وكذا معايشة الحضارة على هيئة إنسان ارتسمت معه أبجديات القصة والرواية التي لن تنتهي، وهو يحوز في الإمارات سمات خاصة مطعمة بلون البداية والذكريات التاريخية، وكذلك مشهدي الحراك والتطور، وساهمت في النقلات النوعية لثقافة المجتمع، نقلته من سمة البساطة وأعارته بدلة الأفكار المركبة، لتتشكل بذلك طريقة حياة جديدة، وفكرة معايشة مغايرة مع الآخر. هكذا فإن السينما وصناعة الأفلام بالدولة باتت بمثابة تجربة إعادة تعريف وتوصيف حيّة للحياة البشرية، في سيناريو مزدوج يحيط بمفردتي القصة (الحبكة) والواقع في آن واحد.

نتعرف في مطالعتنا لذكريات وتواريخ وأحداث سينما الإمارات في كتاب (الدراسات في آثار وتراث دولة الإمارات العربية المتحدة) لناصر حسين العبودي، الباحث في مجال علم الآثار والاجتماع، إلى مصطلح محلي جميل عذب وهو (طماشة) أو(فرجة)، الذي يعني تجمع الأشخاص لمشاهدة حدث مميز أو غير مألوف عند اهالي المنطقة، وقد بدأ الناس ينتبهون إلى (الطماشة) في سوق الشارقة القديم (العرصة)، في منطقة الرولة عام ‬1960، حيث انتشر خبر الطماشة، وأنها لا تقام إلا ليلا. وعن ذكرياته الخاصة حول هذه الحيثية، يقول ناصر العبودي في كتاب:

(إن بعض الرجال قالوا إنها سينمة)، وترقبنا تلك الليلة بفارغ الصبر وتوسلنا لوالدي الذي قرر اصطحابنا لمشاهدتها، وانتظرنا حلول الليل، وعلى غير عادتنا تعشينا مبكرا. ولبسنا ما نملك من ملابس جديدة وكأننا في العيد. ومشينا من منطقة (المريجة) حيث كنا نسكن، حتى الرولة، وكان الطريق مظلما. فالكهرباء (كهرباء الدوخي) وهي(أول محطة كهرباء أنشئت في الشارقة بمعاونة الحكومة، لم تكن قد وصلت إلا لبعض البيوت، وعبرنا في طريقنا من حي (بو كندر) وحي (الشيوخ) حتى وصلنا إلى ساحة الاحتفالات المعروفة والتي تقع أمام الحصن القديم مشكِّلا غربها، والمضيف جنوبها، وبعض الدوائر المحلية شمالها وشرقها.

ويتابع العبودي سرده في هذا السياق، ليصف بعدها كيف أنهم رؤوا الناس وهم متجمهرين وقد افترشوا الرمل، واستمروا بالمشي بين الناس متخطين (الطماشة)، وإذا بهم فجأة يتوقفون في نهاية صفوف الجالسين على الأرض بطريقة عشوائية، حيث بدؤوا ينظرون إلى البحر الأزرق والأسماك الملونة والمناظر المتحركة من خلال شاشة عرض منتصبة.

ويوضح العبودي، أن هذا كان أول عهده بالسينما، مشيرا إلى أن أول عرض سينمائي كان في الرولة وأمام الحصن عام ‬1939 زمن المرحوم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، حاكم الشارقة حينذاك، وأن آلة العرض كانت مثبتة على سيارة لاندروفر، وكان الفيلم إنجليزيا، ومن النوع الصامت.

سينما المعسكر

واستمراراً لقصة السينما في الإمارات، فإنه بدأت فعلياً في (المحطة): عبارة عن مبنى لأول مطار افتتح في الشارقة والإمارات عام ‬1930، موازيا لتأسيس محطة الطيران التابعة للتاج البريطاني، حيث أقيم للجنود في المعسكر البريطاني عام ‬1945 أول دار عرض سينمائي لأفلام سينمائية صامتة. وفي هذا الخصوص أكد عبد العزيز المسلم مدير إدارة التراث بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، أن الهدف من عروض هذه الأفلام كان الترفيه عن الجنود البريطانيين، موضحا أن السينما كانت عبارة عن جهاز متنقل للعرض (بروجكتر) يعرض مادة الفيلم على الجدار. ولم يتم تجهيزها بكراس مخصصة لجلوس الجماهير، بل كانت عبارة عن (أبياب الكاز): علب معدنية للكيروسين تملأ نصفها بالرمل وتوضع على الارض لكي يجلس عليها الناس.

ويلفت المسلم إلى انه لم يُسمح لغير الجنود والعاملين فقط في المعسكر بمشاهدة تلك الأفلام، مبينا أن التغيرات المناخية كهطول الأمطار أو هبوب رياح قوية، كانت كفيلة بإلغاء العرض.

سينما حديثة

ويسوق المسلم في هذا الشأن، رواية لوالده عن ردة فعل الأهالي عند رؤيتهم لفيلم سينمائي للمرة الأولى، وكيف تعايشوا مع الصورة كفعل مباشر وحدث فعلي، وبعدم وعي لفكرة التسجيل المسبق: (فضت الأماكن مرة وحدة.. وبدأت أدور حول نفسي ولم اجد حدا). ويقول المسلم هنا: (وذكر لي والدي ذات مرة، أنه عندما كانت تظهر مشاهد فيها مقاطع حركة كالسباحة أو الجري وغيرها، كان الناس يتفاعلون مع هذه المشاهد، بحيث كانوا يذهبون خلف الشاشة لتوهمهم بأنهم سوف يتابعون الأحداث من هناك).

وتلا هذه المرحلة، إنشاء سينما حديثة بين الفترة ‬1949- ‬1959، من قبل السلاح الجوي الموجود في تلك الفترة في الشارقة، والذي كان يدعى (آر. ايه. اف)، ويصف المؤرخون تلك السينما بأنها كانت عبارة عن سور مربع الشكل وشاشة متوسطة الحجم، وأمامها دكة مسرح. ويقابلها من الطرف الآخر غرفة علوية لآلة العرض السينمائية، ومكان لجلوس المشاهدين تم تنظيمه كمدرجات من الأعلى للأسفل، وهي مصنوعة من الإسمنت.

سينما هارون

ويعود ناصر العبودي ليشرح عن طبيعة الجمهور في تلك الفترة، مشيرا إلى جمهور السينما كان من جنسيات مختلفة، منهم الانجليز والهنود والمثقفون، بالإضافة إلى الموظفين والمواطنين العاملين بالقاعدة، لافتا إلى أن العروض كانت تبدأ في حدود الساعة الثامنة أو التاسعة مساءً. وأن فئة الشباب كانوا يتوافدون من دبي لمشاهدة العرض، مشياً على الأقدام أو بالدراجات الهوائية «السياكل»، ويرجعون بعدها بالطريقة نفسها.

(هارون) اسم لا يغيب عن ذاكرة من عاصر بناء أول سينما في الشارقة، كان يدخلها عامة الناس، وذلك في عام ‬1961. فاسم هارون يرجع لرجل باكستاني تبنى فكرة السينما وقام ببنائها وعرض الأفلام الهندية فقط، حيث كان سعر التذكرة روبية واحدة (ملة هندية). ويصفها عبد العزيز المسلم بأنها سينما مكشوفة، وأن الأشخاص قد اعتادوا في عروض فصل الشتاء على جلب (برانيصهم) جمع برنوص، وهو غطاء للنوم مصنوع من الصوف، وذلك لتجنب البرودة أو في حال هطول المطر فجأة، موضحا أن أبرز الأفلام التي بقيت قابعة في أذهان معاصري السينما في تلك الفترة، هي: الرئيس الكبير ةا دسس، الشجعان الثلاثة، عنترة وعبلة.

ويعرفنا العبودي من جانبه ايضا بأنه في تلك الفترة، تم تخصيص يوم الأحد (ليلة الاثنين) من كل أسبوع، ليكون خاصا بالنساء في سينما «هارون» ليتمكنّ من مشاهدة الأفلام. وفي الإطار نفسه ذكر العبودي أنه بين عامي ‬1966-‬1967، تم شراء السينما من قبل مواطنين، وهم عائلة الملا، واستمرت عروض الأفلام حتى أواخر الستينات، وأزيلت بعدها وأنشئ بدلا منها أخرى حديثة ومكيفة حملت الاسم نفسه.

Email