كائنات ثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نأت بنا حمى الأنماط الحياتية العصرية وفوضاها، عن سمتنا الجوهرية كـ«كائنات ثقافية» بالطبع، تعوّدت استثمار خبرات السلف وتجاربه في صوغ مفردات عيش هانئ توشيه معاني الجدوى، إذ تَقدّمنا نسير أمام شعلة مخزوننا المعرفي المراكم طوال عصور، فغفلنا حينها عن حقيقة كوننا جامعي ثقافة لا حامليها فقط. ثم فقدنا بوصلة رحلتنا، وأخذنا نتخبط في مدارات تيه طفق يشتد ليسلخنا من كينونتنا الأصل.

صحيح أن عوامل وأنساقاً لا تحصى، اجتمعت لتقرر ذاك الواقع. لكن مربط الفرس في تغوله، هو تسليمنا القياد للتسليع القيمي والأفكار التسويقية الهدامة، حتى غدونا نعيش غربة داخلية، يؤججها إحساس بالخواء دفعنا لنتوهم أن العالم أمام ناظرينا، ورغم بانوراما تنويعاته الجمالية والفكرية، فليس أكثر من تجربة تسلية وتسوق «هائلة».

 وإذّاك، لم تعد تغرينا أو تجذبنا متع الأسفار، مثلاً، إلا وخطتها لا يحكمها الترفيه بنكهته الثقافية، وإنما قوامها التسوق والاستهلاك، وأساسها الإقامة في أشهر الفنادق وزيارة المتاجر ذائعة الصيت. ولا ضير من الاستشهاد هنا بخلاصة بحث أجري قبل سنوات، بيّن أن عدد مرتادي مراكز التسوق في كندا، يتجاوز بكثير زائري شلالات نياغرا.

ليس بسيطاً أو عادياً ما يحدث لبنية مكون الثقافة الإنسانية، إذ طفقت شموس ذواكرنا المعرفية وإشعاعاتها، وعقب أن غرُبت عن وقائع حياتنا، تهاجر نحو سياقات وقوالب متحفية جامدة، فتتحول تنظيرية خالية من طعم اليوميات أو لونها ورائحتها.

إننا في أمس الحاجة إلى تكاتف دولي يعيد الاعتبار إلى قيمة الثقافة ودورها، كشريان يغذي جذوة الابتكار والتجدد في تفاصيل الحياة المعيشة لدى البشرية، بل يرفدها بعصارات تجارب وخبرات مُلهِمة، تثري قاموسها بمفاهيم التجانس الفكري العالمي، المؤطَّر بروح العدالة والإخاء.

Email