مصابيح الأمل: جيل الألفية في الصين الجديدة

صين المستقبل بعيدة عن الأيديولوجية وقريبة من العولمة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يكاد هذا الكتاب يرسم صورة مستجدة، لأنها صورة لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع والأحوال في صين السنوات المقبلة، باعتبارها الصين التي سيتولى أمرها أفراد الجيل الطالع من الشعب الصيني: الجيل المولود خلال الفترة من سنوات التسعينيات وحتى هذه المرحلة الراهنة من القرن الجديد.

لا عجب أن يطلق الكتاب على هذا الجيل مصطلح الجيل الألفي، حيث جاء مولد أفراده محصلة لقانون الطفل الواحد لكل أسرة صينية، فيما فتح أفراده أعينهم على متغيرات الأحوال في بلدهم الكبير، حيث لم يعد النظام الحاكم متمسكاً بأهداب الأيديولوجية إلى حد التزمت.

إن الأحوال التي شهدت بدايات هذا الجيل الناشئ تميزت بالمزيد من يسر العيش وانفتاح البلاد وتوسيع آفاق تواصلها مع أقطار وأفكار العالم الخارجي، وخاصة بفضل التوسع في الإنتاج السلعي، الذي غمرت به أسواقاً واسعة ومزدهرة كانت السوق الأميركية في مقدمتها.

ومن هنا فالكتاب، بحكم ملامسة مؤلفه الميدانية لأحوال الصين الراهنة، يشكل مصدراً لمعرفة ما تطورت إليه أحوال الصين في المرحلة الراهنة، فضلاً عن تصور ما سوف تؤول إليه هذه الأحوال في مستقبل الأيام.

كلمة "ديموس" تنصرف في الإغريقية الكلاسيكية إلى معنى الناس، الشعب، السكان. أما غراف فهي تنصرف إلى فعل الكتابة أو التسجيل في متن اللغة القديمة سابقة الذكر. هكذا جاء مصطلح ديموغرافية ليعني تسجيل البشر، الناس وهو ما تعني به في زماننا تعدادات السكان التي لا تكتفي، كما هو معروف، بمجرد إحصاء البشر بقدر ما تتعدى إلى رصد مؤشرات المتغير الديموغرافي ما بين الصعود، زيادة حجم السكان إلى الهبوط، تناقص عدد السكان.

وبديهي أن أي حديث يتطرق إلى السكان وتعدادهم أو إحصائهم كثيراً ما يتوجه إلى مناطق بعينها من عالمنا، وخاصة جنوب شرق آسيا حيث يجمع السكان بين عنصر الكثافة الناشطة (اليابان مثلاً) إلى جانب عنصر الكثافة اللافتة (الصين مثلاً).

لكن الجامع المشترك بين القطرين الآسيويين بات يتمثل في التركيز على عنصر الشباب، أجيال اليفاعة في كل منهما.

عن الشيخوخة والشباب

ويأتي هذا التركيز من واقع ظاهرة النقص في الأجيال الشابة على نحو ما باتت تعانيه الحياة اليابانية في المرحلة الراهنة خاصة مع تزايد بل تفاقم الظاهرة المقابلة والخطيرة أيضاً التي يعبرون عنها في علم الديموغرافيا بالتعبير التالي: شيخوخة السكان، بمعنى هيمنة كبار السن على المشهد السكاني القومي على نحو ما أصبح يتجلى بوضوح بين سكان اليابان، وسكان أقطار أخرى في كوكبنا (منها إيطاليا وألمانيا) تؤرق مسؤولي السياسة واختصاصيي التخطيط الاقتصادي، وخاصة من منظور الاحتياجات الماسّة إلى أجيال الشباب المطلوبة لرسم خطط النمو ووضع مشاريع التنمية الاقتصادية، الاجتماعية موضع التنفيذ.

من هذا المنظور تأتي أهمية الكتاب الذي نعايشه في ما يلي من سطور، خاصة وأنه يتناول أوضاع أكبر حجم سكاني في عالمنا، ذلك الذي تستأثر به الصين، التي وصل حجم سكانها حسب أحدث الإحصاءات المتخصصة إلى 1385 مليون نسمة بالتمام والكمال.

اختار مؤلف الكتاب عنواناً رئيسياً لكتابه يعكس أكثر من معنى بلاغي ويمكن ترجمته باجتهاد واضح على النحو التالي: مصابيح الأمنيات، أما العنوان الفرعي الذي يمكن أن نعتمده للدلالة على موضوع هذا الكتاب فتحاول أن تؤديه العبارة المباشرة التالية: النفوس (الأجيال) الشابة في الصين الجديدة.

مؤلف الكتاب ألِكْ آش هو المثقف الإنجليزي الذي شغف بالصين وأحوالها وتطور أوضاعها.

ولم يكن مصادفة أن جاء هذا الكتاب في صدارة مجموعة الدراسات المنشورة أخيراً واختارتها جريدة "الفاينانشيال تايمز" اللندنية ضمن الكتب التي أوصت بقراءتها خلال أشهر الصيف من عامنا الحالي ضمن تصنيف الكتابات السياسية، خاصة وأن الصين مازالت تشكل بالنسبة للدارسين أو المتابعين عالَماً قائماً بذاته، ويستدعي فهم أحواله وتحليل مسارات حياته.

لا فيما يتعلق مثلاً بغزارة إنتاجه السلعي، ولا بأهمية دوره السياسي على صعيد مناطق جنوب شرقي آسيا أو غربي المحيط الهادئ، ولكن أيضاً من حيث الصورة الديموغرافية للشعب الصيني، الذي يقّدر لأجياله الطالعة أن تضطلع بأدوار محورية في المراحل المقبلة من القرن الواحد والعشرين.

الشباب هم ثروة المستقبل

من هنا يستهل مؤلفنا بحثه الراهن بإثبات المقولة البسيطة والمحورية التالية:

إن الشباب هم الجيل الذي سيتولى مهمة تغيير الصين فيما يتلو من سنوات.

بعدها يعمد المؤلف إلى إثبات بعض الحقائق أو حتى البديهيات الديموغرافية، وفي مقدمتها ما يلي:

• تضم الصين حالياً ما يزيد على 320 مليون نسمة ممن تتراوح أعمارهم بين سنوات المراهقة وسن العشرين عاماً، بمعنى أن هذا الحجم السكاني الناشئ والواعد طبعاً يفوق مجموع حجم السكان في بلد منافس ومحوري بدوره اسمه الولايات المتحدة.

• إن هذه الأجيال الناشئة وُلدت بالطبع بعد رحيل الزعيم ماو تسي تونغ منذ 40 سنة بالضبط (سبتمبر 1976). والمعنى مرة أخرى أنهم لم يشهدوا ولا عايشوا صعوبات فترة الخمسينيات التي شهدت ولادة جمهورية الصين الشعبية بكل ما كابده آباؤهم وأجدادهم في العقد المذكور من معاناة ولادة دولة قامت على أسس من أيديولوجية مذهبية جامدة بل وقاسية بكل معاني شظف العيش وهيمنة السلطة وسطوة الحزب الحاكم الواحد، بل الوحيد، وهي قسوة ما لبثت أن تفاقمت.

كما هو معروف، خلال سنوات الستينيات، التي شهدت بدورها انفجار ما أطلقوا عليه في الصين وصف الثورة الثقافية التي لم تتردد، تحت ظلال الشعارات المذهبية المرفوعة – في الإطاحة بزعامات وقيادات، مما أشاع أجواء من الرهبة الشديدة – الخانقة أحياناً في كل أنحاء الصين.

فيما كان ذلك ثمناً للتحولات الإيجابية التي استجدّت على حياة البلد الآسيوي الكبير، ومهدت الطريق أمامه نحو تحويل حجمه السكاني المتضخم إلى طاقة عمل شاسعة ومبدعة، ما لبثت منذ منتصف السبعينيات أن وضعته عند الصف الأول من الدول والكيانات السياسية في مضمار التصنيع والإنتاج والإبداع التقني على حد سواء.

«الألفيون» في الصين

هكذا جاز لمؤلف هذا الكتاب أن يصف أجيال النشء في الصين وقد ولدوا بعد حقبة الزعيم ماو بأنهم فتحوا أعينهم على وطن كان يتخذ سبيله إلى الصعود، ومن ثم فقد شاءت حظوظهم – بحكم أعمارهم الغضّة ومنها ما بدأ مع استهلال القرن الحالي، أن يكون لهم تأثير بل نفوذ غير مسبوق في شؤون العالم الذي يعيشون فيه.

هؤلاء يطلق عليهم الكتاب المصطلح التالي: "الألفيون"، جيل صين، القرن الواحد والعشرين، الذي لم يكابد آلام مرحلة البناء والتقشف أيام ماو ولا عايش حقبة التحّول بكل مطالب ومقتضيات التحول أيام دنغ هيساو بنغ التي انتهت مع بداية عقد التسعينيات.

بيد أن هذا الجيل جاء نتاجاً - كما يوضح كتابنا - لسياسة الطفل الواحد - للأسرة الصينية، وهي السياسة التي فرضت على سكان الأصقاع الصينية إلى أن انتهى العمل بها مع بدايات العام الحالي، وكم شهدت معاناة العائلات الصينية، وخاصة النساء، الأمهات من حيث التحديد القاطع الحاسم والمؤلم لعملية الإنجاب، وإلا كان التعّرض لأقسى أنواع العقاب.

والمعنى بالطبع أن الأغلبية الساحقة من أفراد هذا الجيل من الشباب الطالع في الصين من ذكور وإناث هم من فصيلة طفل الأسرة الوحيد، ولهذا يصفهم مؤلفنا موضحاً أن أفراد هذا النشء لا يزالون يواجهون نمطاً من المنافسة الشرسة، ويتعرضون لجميع أنواع الضغوط الحادة من أجل إحراز النجاح، فضلاً عن انقطاع الصلة بينهم وبين ماضي وطنهم الحافل - كما أسلفنا - بسنوات وأحداث التقشف وقسوة التحديات وهيمنة الحزب الواحد وسطوة الحكم المذهبي، ومن ثم فلا يزال المشهد الحياتي في الصين نهباً للتجاذب الصعب بين مواريث الماضي ومتطلبات التحديث.

خاصة وقد حلّت بعالمهم طبعاً ظاهرة العولمة بكل مقتضياتها التي يشير المؤلف إلى بعضها بعضاً، حين يقول إن هذا الجيل الحالي الغضّ من ناشئة الصين بات متماثلاً مع أقرانه في شتى أنحاء عالمنا من حيث الرغبة في الخروج من مسكن الأسرة.

وفي كل حال، فإن المؤلف، بعد استعراض حياة وسلوكيات أفراد من هذا الجيل الصيني الطالع إنما يسارع إلى إصدار أحكامه في عبارات يقول فيها: إن هذا الجيل هو الذي سيتولى تغيير الصين مما يشكل بدوره تغييرات تلحق بالعالم بشكل عام.

الواقع أهم من التنظير

الشاب الصيني الطموح بات يسلّم في هذه السن الغضّة بضرورة التعامل مع أبعاد الواقع المعاش وباتباع الأساليب العملية – التجريبية بعيداً عن التمسك بالأيديولوجيات المذهبية الموروثة والمقولات العقائدية الجامدة وفي مقدمتها طبعاً الماركسية التي ما زالت تمثل النهج العقائدي للحزب الحاكم في ربوع الصين.

في كل حال فالجيل الصيني الذي يتناوله هذا الكتاب وُلد ونشأ وتربى وسط بيئة أكثر يسراً وأوفر رغداً وأكثر تفاعلاً مع تطورات العالم بالمقارنة مع الأجيال المخضرمة التي سبقت في الصين، وعاشت بالتالي أحوال التمسك المذهبي والتقشف المعيشي والعزلة النسبية وخاصة في سنوات الستينيات والسبعينيات.

وباختصار أيضاً، يؤكد المؤلف رؤيته التي يخلص إليها عند نهايات هذا الكتاب موضحاً لنفسه ولقارئه بل وللعالم بأن صين الفترة الزمنية المقبلة جديرة بأن يتولى مقاليدها جيل أقل التزاماً بالمقولات – الشعارات العقائدية وأكثر انفتاحاً على متغيرات عصر العولمة وأقرب إلى الروح العملية وأشد انفتاحاً على شعارات ومبادئ المعارضة السياسية والحوار المجتمعي وحقوق الإنسان.

صورة مستمدة من خبرة مباشرة في الصين

يستمد هذا الكتاب أهميته - في رأي جمهرة المحللين والنقاد - من أن المؤلف ظل يترجم خبرته المباشرة – الميدانية بحكم التعريف، بأحوال الصين، من أجل أن يحيط العالم الخارجي بما يدور حالياً داخل البيت الصيني الشاسع من أفكار وتيارات وسلوكيات وآمال مختلفة، وخاصة تلك التي ما زالت تراود أفراد هذا الجيل الذي ولد أبناؤه في الفترة الفاصلة بين عامي 1985 و1990.

يعمد مؤلفنا أيضاً إلى رسم صورة أشمل من حيث أبعاد الزمان والمكان للصين خلال الحقبة الزمنية التي سبقت هذين التاريخين، مع التركيز المكثف في سطور الكتاب على وقائع ومرارات الثورة الثقافية التي قادها الزعيم ماو عند منتصف الستينيات إلى إصلاحات دنغ هيساو بنغ الانفتاحين خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، في حين أن أفراد الجيل الطالع المذكور كانوا أطفالاً – كما يؤكد الكتاب – فلم يدركوا بحق أبعاد الموقف الذي تعرضت له الصين، في عام 1989 مثلاً حين شقت الدبابات طريقها في شوارع العاصمة بكين من أجل إخماد ثورة الطلاب والشباب فيما عُرف بعدها بأحداث ساحة تيانا مين.

ولعل أهم ما تميزت به فصول هذا الكتاب هو أنه رسم صورة للصين الجديدة، أو هي الصين المعاصرة للفترة الراهنة حيث أصبحت أجيالها الناشئة، ومنهم الشخصيات الشابة الست التي عرض لها المؤلف، خاضعة لتأثيرات ومتغيرات ظاهرة العولمة.

الجيل الجديد والتواصل الاجتماعي

الشباب الصيني يسعى إلى التماس فرصة عمل في وظيفة مستقلة أو موقع تتيحه تكنولوجيا المعلومات والاتصال، فضلاً عن الوقوع في الحب ولو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما تنطوي عليه الوسائل المذكورة من إيجابيات وسلبيات.

وفي هذا الإطار يعمد المؤلف إلى موافاة قارئيه بصور مستقاة من واقع حياة هذه الأجيال الناشئة في الصين: ما بين الخاضعين للحزب الشيوعي الحاكم أو الملتزمين بعقائده وسياساته إلى شاب وافد من أرياف الصين إلى حواضرها فضلاً عن الشباب الصيني الآخر الطامح إلى خوض غمرات التكنولوجيا السوبر، متقدمة .

المؤلف

ألِكْ أش كاتب إنجليزي شاب يتخذ مقره في مدينة بكين عاصمة الصين التي بدأ الإقامة فيها منذ عام 2008 وحتى الآن. التحق المؤلف بجامعة اكسفورد الإنجليزية العريقة، حيث درس الأدب الإنجليزي بكل ما احتوته هذه الدراسة من صور وأفكار عن أقطار الشرق الأقصى وفي مقدمتها الصين.

وقد بدأ المؤلف أنشطته في مجالات الأدب والكتابة والصحافة بتولي مسؤولية تحرير مجلة "إيزيس"و توجه للمعيشة في ربوع التبت إلى أن اتخذ مقر إقامته الدائم في عاصمتها بكين.

تأليف: ألِكْ آش

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة بيكادور، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 336 صفحة

Email