عولمة اللامساواة

التعليم مفتاح إتاحة الفرص المتكافئة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

صدر أصل هذا الكتاب بالفرنسية، ونشرت ترجمته الإنجليزية في عام 2015. وما برحت هذه المعلومة مهمة في ضوء اقتران هذا الكتاب بنظير آخر صدر بدوره بالفرنسية للباحث الأكاديمي الفرنسي الشاب توماس بيكيتي تحت عنوانه الشهير «رأس المال».

وبعد صدور كتاب البروفيسور بورغينون عن »عولمة اللامساواة« عمد المحللون إلى التعامل مع الكتابين من منظور مشترك، أولاً لأن كلا المؤلفين أستاذ في كلية باريس للاقتصاد، وثانياً لأنهما لا يزالان مهتميْن بقضايا اللامساواة في المجال الاقتصادي، الاجتماعي، سواء على مستوى المجتمعات القومية القطرية أو على مستوى مجتمع الدول الراهن الذي أصبح محكوماً بظاهرة العولمة.

مع هذا، فمن النقاد مَنْ تعامل مع هذا الكتاب على أنه يصدر عن نَفَس هادئ، بحكم أن مؤلفه، البروفيسور أستاذ جامعي مخضرم، وبالتالي فقد توخى في كتابه اتباع أسلوب يرتبط بالواقع العملي الملموس، فيما جاء كتاب بيكيتي حافلاً بالأفكار الكبيرة والطروحات النظرية.

وفي كل حال يُحسب لكتاب البروفيسور بورغينون أنه يشدد على الاهتمام برفع مستوى التعليم باعتباره المفتاح الأساسي للفرص المتكافئة في أي مجتمع نام أو متقدم، وخاصة أمام المنتمين إلى الطبقات الدنيا وأبناء شرائح الطبقة الوسطى الطامحين إلى حياة أفضل.

في اللغة اللاتينية تنصرف مادة "إكواليس" إلى معنى التوازن والتعادل والتواؤم.. ومنها اشتقت الثقافات الأوروبية مصطلحات تؤدي هذه الأغراض، وفي مقدمتها بطبيعة الحال لفظة إيكوال ثم إيكوالتي التي تفيد بداهة معنى المتساوي وحالة المساواة.

وفي السياق نفسه، ولأداء المعنى ذاته، اشتق الفرنسيون واستخدموا لفظة »إيجالتي« لتفيد حالة المساواة، حيث ذاعت اللفظة الأخيرة حين دوت صيحات المقهورين والمظلومين في كل أرجاء فرنسا، التي شهدت أولى شرارات ثورتها الوطنية الكبرى.

وقد اشتعلت بعد سقوط وتحطيم سجن الباستيل يوم الرابع عشر من يوليو عام 1789. وبعدها ارتفعت شعارات الثورة الفرنسية الكبرى مرفوعة على لافتاتها المثلثة لتقول بما يلي: الحرية.. الإخاء.. المساواة.

المعذبون في الأرض

ظلت المساواة شعاراً وهدفاً وحلماً على مستوى شعوب العالم كله باعتبارها الأساس القويم لتحقيق العدل والإنصاف، بعيداً عن المجتمعات التي تشهد احتكار القلة (الأوليغاركية) لكل ما يحفل به مجتمعها من إمكانات ومزايا مادية ومعنوية، فيما يتم هذا الاحتكار على حساب الملايين ممن يعيشون في أدنى قاع السلم الاجتماعي، فريسة، كما هو بديهي، لآفة الفقر المدقع والجهل المتفشي والمرض الذي لا يُرجى منه شفاء.

إنهم »المعذبون في الأرض« على نحو ما وصفهم عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الموجز الشهير الصادر في أواخر أربعينات القرن العشرين حيث صوّر في تصدير الكتاب حالة التباين الصارخ، المرفوض طبعاً، بين »الذين يحّرقهم الشوق إلى العدل«.. والذين يؤرّقهم الخوف من العدل.

صحيح أن مسيرة المجتمع العالمي، وخاصة عبر سنوات وعقود القرنين التاسع عشر والعشرين، ظلت تعلن عن مسيرتها نحو تحقيق المساواة، ولو بقدر متباين من مجتمع هنا إلى مجتمع هناك، إلا أن المتغيرات التي ظلت تستجد على المجتمع البشري ظلت ترتبط بأحوال وأوضاع تميزت بتحيزاتها الاجتماعية الاقتصادية لصالح طرف اقتصادي هنا وفئة اجتماعية هناك..

هكذا شهدت تلك الحقبة الزمنية الحديثة اختلال موازين المساواة بين الطبقات الأرستقراطية وعموم الجماهير، ثم بين فئات الأثرياء من أصحاب المصانع ومالكي رؤوس الأموال وبين الطبقات الدنيا، وخاصة الأفراد الذين لا يملكون سوى بيع جهودهم وساعات حياتهم لقاء أجر لم يكن حتى أواخر القرن 19 يفيد سوى في سد الرمق، على نحو ما تشهد بذلك مثلاً روايات المبدع الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز (1812، 1870).

كتاب من 5 فصول

يتألف كتابنا من خمسة فصول يعرض أولها لظاهرة يمكن وصفها بأنها اللامساواة الكوكبية. ويطرح الثاني سؤالاً يقول بما يلي: هل تتفاقم حالة اللامساواة بين البلدان؟

ويتعامل الفصل الثالث مع العولمة وعلاقتها بالقوى الكامنة خلف تزايد (تفاقم) اللامساواة. أما الفصل الرابع فيحمل العنوان التالي: نحو عولمة عادلة منصفة: الآفاق والمبادئ. ثم تعود نبرة التساؤل مع الفصل الخامس إلى حيث تقول: ما هي السياسات الملائمة لعولمة أكثر إنصافاً؟

وأخيراً ينهي البروفيسور فرانسوا بورجينون كتابه بخاتمة تحفل بنبرة لا تخطئها البديهة من التفاؤل وهي: »عولمة المساواة«.

على مدار فصول الكتاب لا يجد المؤلف بّدا من الاعتراف الواقعي بأن عالمنا الراهن إنما يعيش حالة من التناقض الغريب: بين اقتصاد نابض بالحركة (رغم ما قد يعانيه من أزمات في هذه المرحلة أو تلك) ولكنه أفضى بحكم دينامية حركته إلى رفع مستوى المعيشة لصالح ما يصل كما يقدّره المؤلف إلى نصف مليار إنسان كانوا يعيشون ويعانون في بلدان مختلفة: ما بين الصين إلى الهند إلى البرازيل .

ومع ذلك فثمة تيار متنام وملحوظ للأسف، ويشهد بازدياد حالة اللامساواة داخل البلدان ثم بين البلدان وبعضها البعض على خارطة العالم، تأمل مثلاً حالة أقطار في أوروبا أميركا.

وحالة أقطار في أصقاع العالم الثالث مازالت الأمم المتحدة تصنفها ضمن فئة أقل البلدان نمواً سواء من حيث الناتج المحلي الإجمالي أو من حيث الدخل اليومي للفرد الذي يتدنى في بعض أحراش آسيا أو أغوار أميركا اللاتينية أو أدغال أفريقيا عن دولارين .

عن أثر العولمة

والمعنى الذي يؤكد عليه المؤلف هو أن الوضع العالمي الراهن لم يعد يسمح بالتصنيف الكلاسيكي للدول إلى غنية متقدمة وإلى فقيرة آخذة في النمو. لماذا؟ لأن العولمة أصبحت حقيقة واقعة كمحصلة لما شهده كوكب الأرض من إنجازات في عوالم الاتصال وتكنولوجيا المعلومات..

وأيضاً لما بات يعانيه الكوكب المذكور أعلاه من مشكلات ليس أقلها جائحة تغير المناخ التي لا تستثني طرفاً من عقابيلها، يستوي في ذلك جنوب العالم النامي المتخلف وشماله الثري المتقدم على السواء.

ثم يمضي كتابنا إلى شرح مظاهر أو تجليات اللامساواة حيث يعرضها على النحو التالي: حالات اللامساواة (غياب الإنصاف) في: الأجور والدخول الفردية وفي الإيرادات الشخصية، وفي إنفاق المستهلكين، ورفاه الأفراد.

والمشكلة في تصور مؤلف الكتاب أن هذه التباينات.. هذه الثغرات الفاصلة، سواء كانت بين إيرادات الأفراد في المجتمع الواحد أو كانت بين إمكانات الدول في مجتمع العولمة، مازالت في حال من الاتساع ومن ثم التفاقم بكل ما ينجم عن ذلك من استشراء ظاهرة الفقر المدقع في الدول النامية التي حاولت منظومة الأمم المتحدة توصيلها إلى النصف على مدار الفترة 2000، 2015، ثم اعترفت أخيرا بأن جدول الأهداف الإنمائية للألفية التي سبقت إلى اعتماده المنظومة العولمية لم يُفْضِ إلى تحقيق هذا الهدف المنشود.

لكن يحسن مؤلف الكتاب صنعاً عندما يؤكد على حقيقة أن آفة اللامساواة لا تقتصر على العنصر المادي وحده، بمعنى عنصر النقود أو الدخل أو الإيراد المالي: ان المساواة تمتد في رأي المؤلف إلى المجالات غير النقدية كما تعبر عنها فصول الكتاب وتجسدها أحوال اللامساواة من حيث الحصول على الفرص المتكافئة إنما يتمتع بمزايا العدالة الاجتماعية.

اختصار المسافة بين الأغنياء والفقراء

ومن الطريف أيضاً أن نلاحظ كقارئين، تركيز الكتاب على مقولة تحذيرية كما نتصور ويصوغها الكتاب على النحو التالي: أيها الأثرياء، في ظل تحولات العولمة، لم تعد المسافة طويلة ولا عادت الشقة بعيدة كي تفصل كما كان في عصور انقضت، بين حياة الفقراء المحرومين، وحياة الأثرياء المحظوظين، المقياس نفسه ينطبق على حياة الدول، الشعوب النامية المتخلفة.

. المحرومة وحياة الدول، المجتمعات الموسرة التي ما برحت تنعم بأشهى ثمار التقدم الاقتصادي: كان العالم خلال القرون الماضية كوكباً شاسع الأرجاء، لكنه أصبح في ظل العولمة قرية تقاربت على صعيدها أحياء ومعايش الذين يملكون والذين لا يملكون..

وهو ما يجعل من حالة اللا إنصاف العولمي كما قد نسميه، وضعاً ملموساً ومرصوداً وخاصة من جانب الفقراء والمحرومين والمهمشين والمنبوذين، سواء كانوا يمثلون شرائح أو فئات أو طبقات اجتماعية، أو كانوا يشكلون دولاً تضمها خارطة النظام الدولي، العولمي الراهن.

التعليم: طوق الإنقاذ

في السياق نفسه تحذر فصول الكتاب مما يصفه المؤلف بأنه تراجع حظوظ الطبقات الوسطى بوصفها العناصر الضابطة كما نتصور، لحالة التوازن الاتزان الاجتماعي: إن هذه الطبقات تشهد حالياً انخفاضات بدأت تعتري مستويات معيشتها، فما بالنا بمن هم في قاع المجتمعات الموسرة ممن يرون شبكات الأمان (التأمينات، الضمان تدابير الرفاه.. إلخ) وهي تتبّخر وتكاد تفلت من أياديهم.

أخيراً يعترف المؤلف، محذراً في هذا المجال، بأن المشكلة لم تعد تتمثل في نوعية الإجراءات التي يتدارسها ويوصي باتخاذها أمثاله من الباحثين والدارسين:

المشكلة هي في التنفيذ الصحيح لما قد يصدر من توصيات، ومنها مثلاً التوصية بترقية أداء منظومات التعليم في البلدان النامية وفي الأقطار المتقدمة أيضاً، ومع ذلك يظل مستوى المعارف والمهارات المطلوبة دون المطلوب ودون مقتضيات العصر. لماذا؟.. لأن التنفيذ لم يكن على مستوى التوصية نفسه، وهو ما يتطلب مراجعة ما يتم تنفيذه ومن منطلق الاعتراف بالخطأ، وتوخّي مبدأ الأمانة مع الذات.

كتابات واجتهاد عن اللامساواة

لا عجب إذن أن يتواصل الاهتمام بقضية المساواة في إطارها الإيجابي.. ثم آفة اللامساواة في إطارها السلبي. حتى مع هذه السنوات الاستهلالية التي ما برحنا نعيشها في هذا القرن الحادي والعشرين.

من هنا فلاتزال قضية اللامساواة هي الشغل الشاغل لكوكبة من المفكرين والعلماء الباحثين في قضايا أوضاع الاقتصاد والتحولات الاجتماعية، سواء على المستويات القطرية أو المستويات الإقليمية فضلاً عن المستويات الدولية.

ويشهد بهذا الاتجاه صدور عدد من الكتب المحورية التي انشغلت بهذه المسألة ومن زوايا مختلفة بطبيعة الحال.

في هذا الإطار صدرت في المرحلة القريبة الماضية كتب من قبيل:

»اللامساواة وماذا يمكن أن نفعله حيالها« للمفكر الاقتصادي الإنجليزي أنتوني اتكنسون.

»الخطوط الفاصلة« للمفكر الاقتصادي الأميركي، الهندي الأصل راغورام راجان.

.»الهوة الواسعة« بقلم البروفيسور جوزيف ستغلتز، خبير البنك الدولي الحائز على جائزة نوبل.

وسط هذا السياق الحافل يصدر الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور تحت عنوان ذاتيّ الدلالة كما نراه وهو: عولمة اللامساواة.

والمؤلف هو المفكر الفرنسي، البروفيسور فرانسوا بورغينون الذي اختار أن يطّل على قضية اللامساواة في هذا الكتاب من خلال منظورات ثلاثة هي: الاقتصاد + السياسة + العولمة.

ومن خلال هذا المنظور الثلاثي تتعامل طروحات كتابنا مع مشكلة اللامساواة: أولاً بين طبقات المجتمع البشري الراهن، وثانياً اللامساواة بين الدول المتقدمة والنامية ناهيك عن الدول المتخلفة، فيما تجري متابعة وتدارس هذه الظاهرة المَرضية والمنافية للقيم الإنسانية..

ولكن على صعيد أوسع نطاقاً هو ما يعرف باسم القرية العولمية، الإلكترونية التي بات يجسدها عالم اليوم على نحو ما سبق وأن تنبأ وبشّر به رائد الاتصال الإعلامي الشهير مارشال ماكلوهان منذ عقد الستينات من القرن العشرين.

عواقب اللامساواة داخل المجتمعات

يركز الكتاب كثيراً على عواقب اللامساواة داخل المجتمعات قبل نظيرتها فيما بين دول العالم. ومن الحلول التي يؤكد على طرحها هذا الكتاب ما يتمثل في النهوض بنظم التعليم في المجتمعات الفقيرة، ولكن على أسس تجمع بين إتاحة الفرص المتكافئة أمام أبناء الفقراء وبين توفير الأموال اللازمة في هذا المضمار من واقع نظام ضريبي أكثر فعالية يتم تطبيقه على فئات الموسرين.

وبديهي أن لهذه التطورات والأوضاع المستجدة عواقب فادحة الخطورة وهو ما يعبر عنه مؤلف كتابنا، قائلاً: إن هذه العواقب السلبية الناجمة عن تفاقم اللامساواة سوف تكون من الخطورة بمكان.

المؤلف

البروفيسور فرانسوا بورغينون أكاديمي فرنسي بارز اختصاصي في علوم الاقتصاد. حصل على الماجستير من جامعة مونتريــال الكندية ثم على الدكتوراه من جامعة براون بالولايات المتحدة.

وقد نشر المؤلف مئات المقالات البحثية ، فضلاً عما أصدره من كتب في هذه الموضوعات، ومنها مثلاً كتابه بعنوان أثر السياسات الاقتصادية على الفقر وتوزيع الدخل وكتابه عن ديناميات توزيع الدخل في شرق آسيا وأميركا اللاتينية.

تأليف: فرانسوا بورغينون

عرض ومناقشة:محمد الخولي

الناشر: جامعة برنستون، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 224 صفحة

Email