سجناء الجغرافيـا

القيادات والسياسات والثقافات تزول وتبقى الجغرافيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستند مؤلف هذا الكتاب إلى تجربة إعلامية وفكرية طويلة الأمد، واسعة النطاق، وخاصة حين يركز على أهمية البعد الجغرافي في تشكيل حياة الشعوب وفي التأثير عليها. وهو يرى في الجغرافيا العامل الثابت والمستمر على مدار الحقب الزمنية، فيما تتغير بالضرورة سائر العوامل الاخرى، بما في ذلك عوامل السياسة والاستراتيجية والثقافة، وكل ما يرتبط باجتهادات البشر من نتائج.

ويطّبق الكتاب هذا المنظور على حالات دولية شتى، منها مثلا روسيا التي يرى أن بنيتها الجغرافية ظلت تعاني من وجود السهول الممتدة إلى غربيها مما يجعلها معرضة لمشكلات من جهة الغرب، وهو ما يدفع ساستها إلى تمنّي وجود جبال في تلك المنطقة، بحيث تشكل ما يمكن أن يكون بمثابة حواجز طبيعية في حالات الخطر أو المواجهة.

ويروي الكتاب أيضاً ما حدث في مستهل الغزو الأميركي لأفغانستان في أعقاب حادثة المركز التجاري عام 2001.

وفي هذه الظروف هبت عاصفة رملية عاتية وأعقبتها أمطار غزيرة، مما حال دون أي تقدم للقوات الأميركية إلى العاصمة كابول، ومما أدى إلى تحويل تكنولوجيا الاتصال بالأقمار الصناعية إلى آلات صمّاء، ومن ثم فقد فرضت جغرافية الطقس تأثيرها الذي كان ولايزال يعلو على أي اجتهادات أو تحركات من جانب البشر.

في عالم السياسة الأوروبية المعاصرة، كان الزعيم الفرنسي الشهير الجنرال شارل ديغول (1890-1970) يتبع مبدأ الجغرافيا، ومن ثم ذاعت دعوته إلى أن رجل السياسة وصانع الاستراتيجية لابد أن يبدأ مهامه بالنظر إلى الخريطة لكي يتدارس البُعد الجغرافي للظاهرة التي يتعامل معها، سواء كانت الظاهرة ترتبط بصراعات الحرب أو بآمال السلام.

في ثقافتنا العربية كان الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل يؤكد على هذا البعد الجغرافي في التعامل مع القضايا الكبرى.

وفي هذا المضمار كان هيكل متأثراً – كما كتب مؤكداً – بالعلامة المصري الراحل الدكتور جمال حمدان، وخاصة ما يتعلق بما كان حمدان يصفه بأنه الموقع والموضع بمعنى الموقع الجغرافي، الذي يحدد بحكم طبيعة الخْلق والتضاريس وملامح التكوين الطبيعي شكل وأبعاد بيئة وحراك الاحداث.

هذا الموضع هو الذي يترك تأثيره – في رأي جمال حمدان – على الموقع، بمعنى أبعاد المكانة والمركز والدور المرتبطة بهذا القطر من خارطة عالمنا أو ذاك.

في ضوء هذا كله يمكن أن نفهم المقولة التي ما برحت سائدة ومؤثرة في تناول قضايا عالمنا المعاصر. والمقولة هي أن الدول والأوطان ما برحت سجينة الجغرافيا.

وهذا هو عنوان الكتاب الذي نصاحبه فيما يلي من سطور. والعنوان بأكمله يقول بما يلي: سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تفسر كل شيء يتعلق بالعالم.

إدراك الحيز الجغرافي

المؤلف يستهل مقولات الكتاب مؤكداً أن من واجب زعماء الأمم وقادة الدول أن يدركوا قيود الحيز الجغرافي الذي يعيشون في داخله، بمعنى أن خياراتهم تظل محدودة بما في بلادهم من أنهار أو بحار (تضمها أو تطل عليها).

هنا أيضاً تنعى الصفحات الاستهلالية من الكتاب على سلطات الحكم ودوائر التخطيط ووسائل الإعلام ومجامع الفكر والثقافة أنها تولي جلّ تركيزها على البشر والأفكار، فضلا عن الحركات والاتجاهات السياسية، دون أن توجه الاهتمام الواجب لعنصر الجغرافيا، وهو ما يحرمها من استيعاب ما يصفه مؤلفنا بأنه الصورة الكاملة.

وبغير استيعاب الصورة المذكورة أعلاه، يؤكد المؤلف على أنه لا سبيل إلى الفهم المتعمق والاستيعاب المطلوب للأطراف المتباينة والفاعلة في عالمنا المعاصر ما بين روسيا والصين، إلى أميركا، وما بين أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، وما بين أوروبا إلى ساحات الشرق الاوسط.

ولكي يؤكد المؤلف هذا الاهتمام من جانبه بعنصر الجغرافيا فهو يسوق نموذجاً من روسيا المعاصرة بالذات. إنه يوضح أزمة القرار الذي يصدر بالطبع عن رئاسة الكرملين في موسكو ليقضي بتطوير الأسطول الروسي، بينما تفرض قيود الجغرافيا على صانع القرار الروسي حقيقة أن موانئ بلاده تظل خاضعة لآفة التجميد الجليدية على مدار ستة أشهر في السنة.

هذا العنصر الجغرافي، يمكن أن يكون إيجابياً في رأي مؤلف الكتاب، لأنه هو الذي حمى أميركا مثلا من غوائل الغزو القادم من خارج حدودها.

في هذا السياق يؤكد مؤلفنا الحقيقة المبسطة التي يصوغها على النحو التالي: الأرض التي نعيش فوقها هي التي تصوغنا وتشكل مسار حياتنا باستمرار.

ثم يستطرد في هذا الصدد، موضحاً أن الأرض بمعنى طبيعتها أو بالأدق تضاريسها ومعالمها وجغرافيتها هي التي شكلت مسارات الحرب والسياسة والتطور الاجتماعي، وأثّرت في حياة الشعوب ما بين استنارة الانفتاح إلى عزلة الانغلاق.

دور التكنولوجيا

صحيح – يعترف المؤلف- أن هناك شعوباً ناضلت وبنجاح أيضاً كي تستخدم التكنولوجيا لكسر عزلتها، أو لتعويض سلبيات جغرافيتها، إلا أن هذا لم ينفِ تأثير، بل سطوة، العامل الجغرافي في حياة تلك الشعوب.

وفي كل الأحوال، ظلت عوامل الجغرافيا مرتبطة دوماً، وبالحتم، بقضايا الشأن العام، وهو الذي أدى إلى صياغة وطرح الشعار المتداول التالي: الجغرافيا السياسية، الجيوسياسة كما يقال في بعض الاحيان.

ومهما استطاع القادة الأفراد أو استطاعت نظم الحكم أو النظريات المطروحة إحداث تغيير في مسار هنا أو اتجاه هناك، في هذه الدولة أو تلك الأمة، ومهما نجحت سطوة التكنولوجيا في تجسيد تلك التحولات، إلا أن الامر يظل – كما تؤكد طروحات كتابنا- في حكم المؤقت أو المرحلي.

لأن كل جيل يتعين عليه أن يواجه حقائق الجغرافيا، التي لا تقتصر مؤثراتها على أشكال التضاريس الطبيعية، أو على الموقع المكاني للأقطار المعنية: إن هذه المؤثرات لا تلبث أن تتسع وتمتد، فإذا بها تنطوي مثلا على تغيرات وتحولات، وأحياناً على ثورات وغضبات تموج بها قوانين الطبيعة.

ومنها ما يتمثل في ثورات البراكين، أو غضبات الاعاصير، أو تخبطات مواسم الأمطار، ما بين هطول يغرق الحرث والنسل إلى انحسار تهدد ندرته الحرث والنسل، إلى تحولات غير مسبوقة في تجارب البشر، ومنها مثلا موجات التسونامي المحيطية، التي ألّمت بجغرافية الأصقاع الآسيوية الجنوبية منذ سنوات ليست بالبعيدة.

دعاء بوتين

ومن الطريف أن يتوقف واحد من فصول الكتاب متأملا، أو بالأدق مفترضاً، مشهداً يخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في هذا السياق، نطالع سطوراً تقول بما يلي: فلاديمير بوتين رجل متدين، وهو من أهم مؤيدي الكنيسة الارثوذكسية الروسية، وإذا كان الامر كذلك، فربما يتعين عليه قبل أن يأوي إلى فراشه كل مساء أن يردد دعاءه، ثم يختم أدعيته بأن يطرح سؤالا يقول فيه: لماذا لم تضع بعض الجبال في أراضي أوكرانيا؟

وفي معرض التعليق، تواصل السطور كي تضيف: لو كانت العناية الالهية قد وضعت جبالا في ساحات أوكرانيا، لما أصبحت سهول الأراضي المسطحة، الممتدة على مهاد تخوم الشمال الأوروبي، ساحات مغرية لشنّ الهجوم على روسيا مرة ومرات عبر التاريخ. هنالك لا يملك مسؤول مثل بوتين أي خيار سوى أن يحاول السيطرة على السهول الواقعة غرب الكيان الروسي.

وفي ضوء هذا كله، تصدق الأحكام المحورية التي يضمها هذا الكتاب، وفي مقدمتها الفكرة التي تؤكد، كما أسلفنا، على أن الأرض (بمعنى الملامح الجغرافية) التي نعيش عليها هي التي تشكلنا باستمرار.

نعم، هي التي شكلت الحروب التي اضطر البشر إلى خوضها، ابتداء من حروب مواقع المياه، وليس انتهاء بحروب القصف الذرّي. وربما تعود البشرية خلال مراحل من القرن الجديد الراهن إلى خوض حروب المياه على شكل صراعات باتت الآن موضعاً للتحليل والتحذير، بل والإنذار أحياناً، حيث تتمحور تلك الصراعات المنذرة حول ما أصبح يعرف في أدبيات الدرس العالمي المعاصر تحت العنوان التالي: التنافس على «الذهب الأزرق».

والغريب، يقول مؤلفنا، أن هذا البعد الجغرافي ظل يشكل ولسوف يشكل عامل الحسم في سلوكيات الأمم والأفراد، ولكنه لا يتجسد في عامل واحد بعينه، أو كما يقول الكتاب: ليس هناك عامل جغرافي تزيد أهميته على سواه من العوامل المؤثرة في حياة الدول والشعوب، الجبال ليست أكثر أهمية من الصحاري، والأنهار لا تفوق في أهميتها أحراش الادغال.

عاصفة في أفغانستان

لا عجب إذن أن يعمد مؤلف الكتاب إلى طرح أكثر من نموذج يدلل به ويؤكد فيه حقيقة أن الجغرافيا وأحوالها ومتغيراتها هي ديكتاتور حياة البشر، باعتبارها ذات القرار الحاسم بالنسبة لهم، سابقةً في ذلك، وأحياناً متفوقة بذلك على قرارات زعماء السياسة وراسمي الاستراتيجيات.

النموذج المحوري هنا يستمّده المؤلف من أفغانستان. وهنا يعرض المؤلف إلى المشهد التالي: بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، شنت النفاثات الأميركية غاراتها على مواقع القاعدة والطالبان: مؤلف الكتاب شخصياً كان شاهد عيان يعايش تلك الأحداث في منطقة مزار شريف، بدت الأمور واعدة، حيث كان القادة الأميركيون يستعدون لفتح الطريق، في يسر وسهولة كما تصوروا، إلى العاصمة كابول، وفجأة كان للجغرافيا منطق آخر مغاير تماماً.

وهنا يضيف المؤلف: «هبّت أسوأ عاصفة رملية خبرْتها في حياتي. وتحّول كل شيء إلى لون المسطردة الأصفر، ساعتها لم يعد بوسعك أن ترى بأكثر من بضع ياردات إلى الأمام، الشيء الوحيد الواضح كان القمر الاصطناعي الأميركي، الذي أصبح كفيفاً وعاجزاً في غمار هذا المناخ الجديد، وكل الأفراد ابتداء من الرئيس بوش إلى رئيس الأركان الأميركي إلى سائر القوات على الأرض لم يكن أمامهم من خيار سوى الانتظار، بعدها بدأ هطول الأمطار.

فكان أن تحولت الرمال إلى عجائن من طين، وبلغت شدة المطر أن أذابت الأكواخ الطينية التي كنا نعيش فيها نحن معشر الصحافيين، ومرة أخرى أصبح واضحاً (بل من المؤكد) ضرورة التوقف والانتظار ريثما تقول الجغرافيا كلمتها – تلك الكلمة التي سبق أن أصغى إليها واتبع مسارها قادة سجلهم دفتر التاريخ: هانيبال الفينيقي، وصن تزو الصيني، إلى الاسكندر المقدوني، وما زالت أحكام هذه الكلمة سارية حتى اليوم».

علاقات الجغرافيا تفرض حضورها

إن الفيصل الحاكم في علاقات الجغرافيا المتشابكة هو الطريقة التي نفهم بها دينامية هذه العوامل الجغرافية، وهو ما يتجاوز مجرد التسليم بوجود هذه العوامل على سطح كوكبنا.

ليس يكفي مثلا، أن نسلّم بوجود سلاسل الجبال بوصفها حواجز طبيعية، أو وجود شبكات ينابيع المياه بوصفها موارد حيوية، بل الأهم أن نربط هذا كله بحقائق التفاعل بين هذه الموجودات الطبيعية – الجغرافية وبين دورة حياتها وانعكاسات وجودها على سائر مرافق حياة البشر، هنا يلزم الربط بين الطبيعة الجغرافية وبين أحوال المناخ.

وقد أصبح هذا البعد المناخي يتسم بأهمية متزايدة في حياة سكان الكوكب، خاصة في ضوء المتغيرات التي ما برحت تعتري مكونات المعمورة (ما بين انصهار الجبال الجليدية القطبية، إلى زوال الغابات المطيرة بفعل عمليات الاجتثاث غير المشروع، إلى الافراط غير المسؤول في استخدام أو استهلاك الموارد المائية إلى حد الاستهلاك الاهداري في بعض الأحيان).

هناك أيضاً العلاقة الحيوية بين تضاريس الجغرافيا وبين ديموغرافيا السكان، ومن ثم التشابكات مع المستويات والأحوال الثقافية والمعرفية لهؤلاء السكان، وهو ما يشكل بالضرورة موقفهم من مظاهر ومكونات الطبيعة وجغرافية الوسط المحيط.

وفي هذا الخصوص يوضح كتابنا بديهية يقول فيها: إن مثل هذه العوامل تستطيع في مجموعها أن تخلّف أثراً مهماً على الكثير من جوانب الحضارة الإنسانية، ما بين الجانب السياسي، إلى الجانب الاستراتيجي، إلى الجانب العسكري إلى جوانب تنمية المجتمع الإنساني، بما في ذلك عوامل اللغة والتجارة والعقيدة الدينية، وما إلى ذلك بسبيل.

وفيما تُعد مثل هذه العوامل ذات أهمية حقيقية، إلا أنها خاضعة بحكم التعريف للتغير مع مرور الزمن، تأمل مثلا أحوال القادة والزعماء، وتطورات الأفكار وثمار التكنولوجيا، كلها عناصر لها أهميتها التي لا تُنكر، ولها أدوار بالغة القيمة أحياناً في صياغة الأحداث ودفع التحولات إلى مساراتها.

لكن العوامل السابقة متحولة ومرحلية بل ومؤقتة بحكم التعريف أيضاً، يستوي في ذلك الأفكار وطروحات البشر، بقدر ما يستوي البشر أنفسهم بطبيعة الحال.

الجغرافيا سجون لقادة الأمم

القدر الجغرافي الذي ظل يواجهه عبر التاريخ حكام الكرملين في روسيا، بمعنى أن واقع الجغرافيا وتضاريسها وسهولها وجبالها وبحيراتها تكاد في التحليل الأخير تشكل سجوناً تحدق بقادة الأمم وزعمائها من كل جانب، فلا تكاد تتيح لهم من الخيارات سوى أقل القليل، ناهيك عن أن تفسح المجال أمامهم ولو للقليل من المناورة سواء أكانت سياسية أو تكتيكية.

وها هو سجل التاريخ يصادق على هذه الحقيقة، هذا المحبس الجغرافي، كما قد نسميه، هو ما يصدق على إمبراطوريات الزمان الغابر ما بين إمبراطورية أثينا إلى إمبراطورية فارس إلى إمبراطورية بابل وما في حكمها.

المؤلف

تيم مارشال هو كاتب صحافي إنجليزي مخضرم. يستند إلى خبرة واسعة بأحوال أقطار العالم في الشرق والغرب. وقد تعددت تجاربه الصحافية بوصفه مراسلا خارجياً للعديد من وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية، وفي مقدمتها محطة «سكاي نيوز» التلفزيونية.

ومنذ عام 2011 بدأ المؤلف يغطي منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في غمار "الربيع العربي"، وهو ما حمل المؤلف إلى أقطار عربية مثل تونس وليبيا و سوريا ولبنان إضافة إلى مصر.

تأليف: تيم مارشال

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة سكربنر، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 304 صفحات

Email