الاستدامة منهجاً للحفاظ على كوكبنا

الفقر آفة مزمنة تؤرق سكان الأرض

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم طابعها التقني- الأكاديمي، إلا أن هذه النوعية من الكتب ما زالت تحرص على إصدارها كبرى المؤسسات البحثية في العالم، ومنها مثلا معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو الذي تولى إصدار هذا الكتاب الذي يأتي محصلة لجهود بحثية متواصلة بذلها مؤلفه من أجل استجلاء وتحرير مصطلح «الاستدامة» الذي بدأت تباشيره مع مطالع تسعينات القرن الماضي.

وخاصة مع اشتداد ساعد الاتجاهات التي دعت، وما زالت تدعو، إلى الحفاظ على البيئة، وخاصة ما يتعلق بالتعامل الأكثر ترشيدا والأعمق وعياً مع الموارد الطبيعية وفي مقدمتها الموارد المائية والمحيطية بشكل عام.

فضلا عن أهمية الحفاظ على التنوع الجيني الذي يحفل به كوكب الأرض في عوالم النبات والحيوان.

وفي هذه السياقات تشدد مقولات الكتاب على تعميق مفاهيم الاستدامة بما يركز على أهمية اتباع نهج الحفظ والترشيد في التعامل مع الموارد الطبيعية حيث تتسع هذه المفاهيم لكي تشمل الجمع أو التوفيق بين مطالب واحتياجات الأجيال الراهنة، وبين مطالب واحتياجات ثم تطلعات أجيال المستقبل.

من هنا فإن طروحات هذا الكتاب أصبحت ترتبط ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بما اصطلح عليه المجتمع الدولي من تبّني مفهوم الاستدامة الذي أصبح محوراً أساسياً للوثيقة الدولية الصادرة في سبتمبر الماضي عن الأمم المتحدة بعنوان: خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

كأنما لم يشأ القرن العشرون أن يغادر حياة البشر إلا بعد أن يترك لهم ما يمكن وصفه بأنه الوصية الفكرية – الاستراتيجية، التي لابد وأن يحللوا مضامينها ويحددوا معالمها، ومن ثم يسيروا على هديها فيما تتحول مسيرة البشرية إلى قرن واعد جديد.

هكذا حفلت سنوات العقد التسعيني من القرن المنقضي بمصطلحات كانت مستجدة في تلك الحقبة، وكان في مقدمتها على سبيل المثال المصطلح الذي بات شائعاً وسارياً على كل لسان وهو: العولمـــة.

وكم حارت دوائر الترجمة العربية عبر منظومة الأمم المتحدة الدولية إلى أن توصلت إلى صك المصطلح المذكور، الذي سبق إلى التفكير فيه واحد من رواد صناعة ودراسة الإعلام الفضائي المعاصر، وهو البروفيسور الكندي مارشال ماكلوهان، وطَرَح من أجله عبارته الاستشرافية الشهيرة وهي: العالم في طريقه إلى أن يصبح بمثابة قرية كوكبية صغيرة خلال أمد ليس بالبعيد من الزمن.

وربما أضيف إلى تصورات المفكر المذكور قدرة علمية على استشراف آفاق المستقبل، الذي كان وقتها واعداً بتحولات غير مسبوقة ما لبثت أن تحققت مع الثمانينيات، إلى أن ترسخت في سنوات التسعينيات، وخاصة من خلال الإمكانات غير المسبوقة التي جاءت، بل جادت بها، ثورة الإلكترونيات، وفي مقدمتها وسيلة شبكة الإنترنت العالمية، وما في حكمها من تطورات ومنجزات ما زالت تحمل في زماننا العنوان التالي: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

التنمية المستدامة

كل هذه المستجدات تمت في إطار ظاهرة العولمة التي ألمحنا إليها، وكان الهدف الأساسي لكل مفرداتها يتمثل في غاية جوهرية هي النهوض بحياة البشر وترقية أساليب معيشتهم. هذه الغاية المحورية جسّدتها عبارة أصبحت أقرب إلى كلمة السر في طول العالم وعرضه، وهي: التنمية المستدامة.

وكم سبق لمجامع الترجمة الدولية أن مضت تقلب النظر كذلك في التعبير الذي يصلح إطلاقه على حكاية هذه «المستدامة» بعد أن توّزع المعنى، على مستوى أقطار المشرق والمغرب العربي إلى تعابير متباينة ومصطلحات شتى، ما بين التنمية الموصولة، أو المتواصلة، أو المتضافرة، إلى أن استقرت الأمم المتحدة فيما وصُف بأنه اجتماع الألفية الجديدة، المعقود في خريف عام 2000 للميلاد على حكاية التنمية المستدامة.

مع هذا كله فقد جاء التعبير المستجد موضعاً لاجتهادات وتفسيرات مختلفة، على مدار السنوات الخمس عشرة التي انقضت من عمر القرن الجديد الذي نعيش أيامه في الوقت الحالي.

الاستدامة في باريس

لقد كانت التنمية المستدامة هي محور اهتمام المؤتمر العالمي المعقود في نهاية عام 2015 في باريس لبحث قضايا – مشكلات تغير المناخ، ومن قبله كانت تشكل بؤرة اهتمام قادة العالم وكبار مسؤوليه خلال اجتماعات الدورة السبعين التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقرها الرئيسي في نيويورك على مدار الفترة سبتمبر- ديسمبر عام 2015.

ورغم أن المصطلح الأشهر ظل يتردد سواء على شفاه المسؤولين الدوليين أو عبر الصفحات المطولة الصادرة عن الاجتماع الأممي المذكور فإن ثمة أوساطاً علمية وأكاديمية لم تبرأ أصلا من طرح السؤال الأساسي والبديهي أيضاً وهو: ما معنى الاستدامة؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه ويتدارسه ويجيب عنه الأكاديمي الأميركي البروفيسور كِنت بورتني، أستاذ علم الإدارة والسياسة في الجامعات الأميركية، ولقد آثر الدكتور بورتني أن يخصص لمعالجة هذه المسألة واستكشاف الأبعاد والمفاهيم الأساسية لهذه القضية كتابه الذي أصدره أخيرا تحت العنوان التالي: الاستدامـــة.

ومؤلف الكتاب يمهد لمعالجة الموضوع، موضحاً أن مصطلح الاستدامة لا يقتصر على معالجة قضايا الاقتصاد أو تخطيط التنمية بقدر ما أنه يضم سياقات متعددة، تبدأ بالتنمية الاقتصادية، ولا تنتهي عند سياسة الإدارة التنفيذية والأداء الحكومي.

سبعة أهداف

كان طبيعياً أن تتلقى الاستدامة بكل مفرداتها وأهدافها السابق الاشارة إليها اهتماماً عميقاً، ولا يزال متواصلا من جانب المجتمع الدولي، جاء هذا الاهتمام متمثلا مع استهلال القرن الجديد الحالي في صدور الوثيقة الأممية، التي حملت العنوان التالي عام 2000: الأهداف الإنمائية للألفية.

كانت سبعة أهداف، يضم كل منها عدداً من الغايات التي كان من المتوخى تحقيقها أو التوصل إلى بلوغها بحلول عام 2015 للميلاد. وقد تصدّرها بطبيعة الحال هدف مواجهة أوضاع الفقر، بما في ذلك آفة الفقر المدقع، الذي ما برحت ترسف في أغلاله ملايين من البشر، وخاصة في القارات النامية الثلاث.

لكن المشكلة أن حلّت مواقيت عام 2015 في السنة الماضية، بالطبع. وحين التأم عقد قادة العالم في سبتمبر من العام الماضي – على نحو ما أسلفنا- اكتشف المجتمع الدولي أنه رغم ما تم إنجازه فيما يتصل بالأهداف الإنمائية السابقة الذكر ما بين التصدي للفقر إلى تعميم التعليم الابتدائي.

إلى اتباع النهج المستدام في التعامل مع الطبيعة – إلا أن محاربة الفقر لم تحرز النجاح الذي كان منشوداً عبر السنوات الخمس عشرة المنصرمة، ولو حتى لدرجة النصف، كما كانت تقضي بذلك الوثيقة الدولية التي أشرنا إليها.

من هنا عمد قادة العالم إلى وضع مبادئ الاستدامة نصب عيونهم، وتدارسوا أوجاع العالم من جديد لم يكتفوا بمجرد طرح أهداف إنمائية، ولو جديدة للألفية التي ما زلنا نعيشها، تبلورت أمامهم مجموعة أهداف أوسع نطاقاً وأكثر إلحاحاً وكلها تعلقت بنهج الاستدامة التي تدور على محورها مقولات هذا الكتاب.

ثم جاء يوم الخامس والعشرين من سبتمبر 2015 ليشهد قراراً يحمل العنوان التالي: تحويل عالمنا، خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

كأنما آثر العالم أن يمنح نفسه فرصة أخرى، فترة زمنية قوامها، من جديد 15 سنة، يتم في سياقها العمل على تنفيذ ما أسماه القادة العالميون بأنه ميثاق للناس (البشر) والأرض في القرن الحادي والعشرين.

من هنا عمد المجتمع الدولي إلى مضاعفة الأهداف الإنمائية السبعة السابقة، إلى حيث أصبحت 17 من أهداف خطة التنمية المستدامة التي بات لزاماً على كل أقطار وشعوب العالم أن تؤطّرها بحيث تتدارس تفاصيلها بقصد العمل من جانب كل طرف أممي على وضعها موضع التنفيذ .

ومرة أخرى، وفي إطار الاستدامة، يعاود المجتمع الدولي محاولته في شّن الحرب على ظاهرة الفقر، ولذلك يتصدر الأهداف السبعة عشر التي تتضمنها خطة التنمية المستدامة – الهدف رقم واحد الذي يقضي بما يلي على نحو ما يقول النص المنشور: القضاء على الفقر بجميع أشكاله وفي كل مكان.

وهنا تطرح وثيقة الاستدامة الدولية ما تصفه بأنه مقياس الفقر وتحدده حالياً بمن يعيشون بأقل من 1.25 دولار في اليوم.

وكان بديهياً أن يأتي الهدف التالي مباشرة ليتعلق كما يقول النصّ الدولي بالقضاء على الجوع، ومن ثم توفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة وتعزيز الزراعة المستدامة (بما في ذلك الحفاظ على التنوع الجيني للبذور والنباتات المزروعة).

مبدأ الاستدامة يحرص أيضاً على عنصر الإنصاف في تلقي التعليم الجيد لكل من الفتيات والفتيان، وهو ما يتصل كذلك بسبل تحقيق المساواة بين الجنسين بعيداً عن جميع أشكال التمييز فضلا عن النهوض بالمرأة وتمكينها بفضل ما يتاح لها من فرص متكافئة تستحقها بالفعل.

ثم هناك ما تصفه الوثيقة الدولية بأنه الإدارة المستدامة للموارد المائية إضافة إلى تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل للجميع والمستدام، بما في ذلك، بالطبع، توفير العمل اللائق وإتاحة فرص العمالة المنتجة وتحقيق استدامة المدن والمستوطنات البشرية، من حيث كفاءة نظم النقل وصون التراث الثقافي ورفع مستوى الأحياء الفقيرة بحلول عام 2030.

ويرتبط بهذا كله مواصلة تحقيق التنمية المستدامة بين البر والبحر، وهو ما يقتضي أساساً ما تصفه الوثيقة الدولية بأنه حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية من خلال إجراءات شتى في مقدمتها بالطبع منع التلوث بجميع أنواعه وإنهاء أساليب الصيد المفرط أو غير القانوني.

فضلا عن تكريس استخدام أسلوب الاستدامة بالمعنى الذي ألمحنا إليه من خلال وصول الكتاب سواء في إدارة الغابات أو في مكافحة ظاهرة التصحّر أو التصدي لتدهور (نوعية) الأراضي التي لا تزال تشكل المصدر الأساسي لتزويد البشر بالأقوات أو بما يكفل استمرار الحياة وجودة نوعيتها.

أضرار فادحة تلحق بالأرض

يستعرض الكتاب ما يلحق بكوكب الأرض وموارده من أضرار، بل ومن عوامل التدمير، سواء من حيث اجتثاث أشجار غابات الأمازون المطيرة في أميركا الجنوبية ومن ثم إنهاء دورها السرمدي كما قد نسميه في الحفاظ على توازن الدورة المائية اللازمة لاستمرار حياة الكائنات الحية، بكل ما تضمه الدورة المذكورة من مياه الأمطار ومن ثم موارد الأنهار والبحار والمحيطات، أو هي جرائم الصيد الجائر، كما يصفه المصطلح الدولي.

سواء في عمليات صيد الأسماك أو تفخيخ وأحياناً تسميم قيعان البحار أو بالإمعان في اقتناص حيوان الغاب في أدغال آسيا أو غابات القارة الأفريقية، طمعاً في أجزاء وأعضاء الحيوان (العاج، الجلود على سبيل المثال) وهو ما ل ايزال يفضي – كما يندد به كتابنا- إلى انقراض سلالات حيوانية لا يلبث يتضح أن في وجودها ما يحفظ توازنات حيوية تزود كوكبنا بعوامل صحية شتى من قبيل ثراء وتوازن التنوع البيولوجي.

هذه القضايا وغيرها يطرحها الكتاب على طاولة المناقشة وعلى محكّ التحليل، موضحاً أن تجنب عنصر الاستدامة تدفع فيه البشرية وكوكبها الأرضي تكاليف أكثر من فادحة، حيث إن الاستهلاك الفردي والجماعي للسلع المادية وقبلها للموارد الطبيعية لابد من ترشيده وأحياناً تقييده، وهو ما يفرض أكثر من واجب تلتزم به دوائر شتى يأتي في مقدمتها – كما يضيف الكتاب- القطاع الخاص والشركات العامة والدوائر الحكومية، ولاسيما تلك التي تضطلع بمهام التخطيط القومي، فضلا عن المنظمات والدوائر الدولية المعنية، بعناصر ومهام وأهداف الاستدامة على المستوى العالمي بشكل عام.

على سبيل التفصيل أيضاً، يوضّح الكتاب أن عنصر الاستدامة ينبغي تطبيقه في حياتنا اليومية شاملا في ذلك أساليب التعامل مع موارد المياه، وطاقة الكهرباء وسلالات النبات والمزروعات الغذائية بكل ما ينطوي عليه ذلك من تحديات ليس من السهل تجاوزها، حيث تتمثل في تلقين وتدريب مليارات البشر من سكان كوكبنا على أساليب الحفظ والقَصْد والتوفير بعيداً عن سلوكيات الهدر والاستهلاك غير المسؤول إلى حد الهلاك في كثير من الأحيان.

من هنا يتضح أن الاستدامة ليست مجرد نهج منفصل أو مستقل من حيث اتباعه في حياة الشعوب والأفراد: إنها منظومة متشابكة ومتكاملة يتضافر على صعيدها أفراد البشر وعناصر الطبيعة فيما تتقاطع عبر أجزائها أبعاد الحاضر مع أبعاد المستقبل وبشكل دينامي دائم الحركة ومتواصل التفاعل.

ولادة

يوضح مؤلف الكتاب أن مصطلح الاستدامة جاءت ولادته في عام 1987. وجاء هذا المخاض على يد اللجنة العالمية المعنية بشؤون البيئة والتنمية، ويقضي هذا التعريف بما يلي: إن الاستدامة تلبي احتياجات أجيال الحاضر، دون أن تنال من قدرة أجيال المستقبل على الوفاء باحتياجاتها.

والمعنى الذي قصدته الهيئة الدولية المذكورة أعلاه هو أن تعامل الأجيال الراهنة مع الطبيعة: مواردها ومشكلاتها وآفاق تطورها ينبغي أن تركّز على أن لا يؤدي استخدام الموارد الطبيعية أو التعامل مع جوانب البيئة بشكل عام، إلى استنفاد ما تحفل به هذه الموارد من قدرات وإمكانات.

المؤلف

البروفيسور كِنت بورتني يعمل أستاذاً في قسم الخدمة العامة والإدارة بالجامعات الأميركية. يشغل موقع كبير الزملاء الباحثين في معهد العلم والتكنولوجيا والسياسة العامة. وقد سبق له أن ترأّس قسم العلوم السياسية في جامعة تافتس . وكان طبيعياً أن يعكف المؤلف على إصدار العديد من الكتب ، حيث جاءت هذه الإصدارات لتغطي مجالات . وجاء على رأس هذه الإصدارات كتابه «إعادة ميلاد الديمقراطية الحضرية».

تأليف: كِنت بورتني

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 248 صفحة

Email