روسيا والنظام الدولي المضطرب

موسكو مطالبة بسياسة جديدة مع اللانظام العالمي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تصدر مقولات هذا الكتاب، المنشور أخيراً، عن فكرة محورية وبالغة البساطة تقول إن على موسكو أن تدرك الحقيقة البديهية، التي تفيد بأنها لم تعد تعيش الأوضاع ثنائية القطبين التي كانت روسيا تشكل فيها قطباً عولمياً يُحسب له كل حساب أيام الحرب الباردة. وبعد هذه الحقبة تحولت روسيا – بوتين إلى طرح نفسها على أنها كيان أوراسي (بمعنى كيان ينتمي في الوقت ذاته إلى قارتي أوروبا وآسيا) وهي سياسة مازالت – في تصور مؤلف الكتاب- بغير طائل حقيقي حيث ان دول أوروبا (الاتحاد الأوروبي بالذات) لم تعامل روسيا وسياسات الكرملين من موقع القبول، فيما لاتزال دول آسيا تتعامل مع روسيا بوصفها كياناً خارجياً، أو عنصراً دخيلاً على القارة الآسيوية وشعوبها.

حدثان محوريان في تاريخ منظمة الأمم المتحدة العتيدة: يفصل بينهما 55 عاماً بالتمام والكمال، نتحدث عن الدورة رقم 15 التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من عام 1960 وحملت في أدبيات المنظمة عنواناً لا تخفي دلالته وهو: «دورة الرؤســـاء»، ثم نتحدث عن الدورة رقم 70 التي جاء افتتاحها في غضون الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الماضي، ولاتزال وقائعها متواصلة، حسبما يقضي ميثاق المنظمة الدولية، وحتى نهاية ديسمبر المقبل.

وبصرف النظر عن التفاصيل فقد يكفي ــ بالنسبة لموضوعنا المطروح فيما يلي من سطور - أن نركز العرض والتحليل واستقاء العبرة السياسية على قطب واحد من أعضاء المنظومة العالمية وهو: روسيــــا، في عام 1960 جاء إلى نيويورك، ممثلاً لبلاده زعيمها الأسبق نيكيتا خروتشوف. وفي عامنا الحالي جاء إلى نيويورك ممثلاً للبلاد الروسية نفسها رئيسها الحالي فلاديمير بوتين.

والفرق هائل بكل المقاييس، لا بين شخصيتين أو اسلوبين في السلوك السياسي، ولكن بين عصرين، أو فلنقل بين وضعين من أوضاع العالم الذي نعيش فيه.

في الدورة الخامسة عشرة وقف خروتشوف خطيباً يشعر بالاستفزاز الشديد إزاء سلوك مندوب أوروبي أطلق لسانه وقتها ضد الاتحاد السوفييتي. ما كان من الزعيم ــ الخطيب الروسي- سوى أن خلع حذاءه (!) كي يضعه فوق المنصة الدولية علامة على الاستهانة والازدراء بحق المندوب الأوروبي. أين هذا السلوك الخشن بالأمس البعيد من سلوكيات الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يشهد له المراقبون السياسيون والإعلاميون المحترفون بما يتحلى به من كياسة ولباقة وحرص مرهف في صوغ العبارات وإطلاق التصريحات؟

بين خروشوف وبوتين

لكن الفرق، في التحليل الأخير، ليس مجرد اختلاف في الشخصية، بين زعيم، فلاح قادم أيامها من حقول القمح الشاسعة بمسقط رأسه في أوكرانيا واسمه نيكيتا خروشوف، وبين رئيس راهن تربى في بطرسبورغ، وهي أكبر الحواضر الروسية، وكانت موئل إمبراطورية القياصرة، فضلاً عن أن الرئيس الروسي الحالي، فلاديمير بوتين قادم من أخطر دوائر الحكم ومؤسسات السلطة في بلاده وهي دائرة «الأمن القومي»، التي طالما عرفها العالم خلال سنوات الحرب الباردة باسم «كي. جي. بي».

الفرق أعمق من سمات الشخصيتين وأوسع بكثير، فهو فرق الظروف والأحوال التي آلت إليها منظومة القوى العالمية – مع انقضاء هذه السنوات الخمس عشرة من القرن الحادي والعشرين.

هذا الفرق العميق الخطير صنعته عوامل جذرية شتى كان شاهدها البارز هو سقوط حائط برلين الشهير في صيف عام 1989، فيما تجلت معالم هذا الشاهد أيضاً في سياق ومفردات الخطاب السياسي لغورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي الذي جاءت خطبه وشعاراته بمثابة المراثي التي شيعت الاتحاد السوفييتي نفسه إلى مثواه الأخير، مع فاتح عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما دفع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب إلى إطلاق مقولته الشهيرة: «لقد دخل العالم في نظام عالمي جديد»، وكان الرجل يقصد انتهاء صراع القطبين الأميركي والروسي خلال الحرب الباردة ولصالح عالم القطب الواحد، وكان قطباً أميركياً بحكم التعريف.

لكن ظل هناك من الدارسين والمحللين من يذهب إلى أننا بإزاء وضع مخالف تماماً ويمكن أن يطلق عليه الوصف التالي: اللانظام العالمي، وبمعنى: الخلل الدولي الذي نعيشه في الوقت الحالي.

روسيا والخلل العالمــي

وهذا هو المنظور الذي استخدمه مؤلف واحد من أحدث الكتب السياسية، الصادرة خلال الأشهر القليلة الماضية، وجاء الكتاب تحت عنوان يقول: روسيا واللانظام العالمي الجديد.

ولأن الكتاب معنى بالدرجة الأولى بقضايا السياسة الدولية، وبخاصة ما يتعلق بمكانة أميركا، وأيضاً بأوضاع وأدوار حلفائها في كيان الاتحاد الأوروبي، فقد شارك في نشر هذا الكتاب كل من مؤسسة تشاثام هاوس البحثية ومؤسسة بروكنغز الشهيرة التي تعد، كما هو معروف، في طليعة مجامع الفكر ومؤسسات هندسة وتصنيع القرارات الاستراتيجية في الولايات المتحدة. أما مؤلف الكتاب، البروفيسور بوبو لو فهو أستاذ اختصاصي في الشؤون الروسية والصينية في أكبر معاهد البحوث في العاصمة البريطانية لندن.

وفي تحليله لما آلت إليه أوضاع السياسة ومنظوراتها بالنسبة للقيادة الروسية الحالية في روسيا، يسلّم المؤلف بأن زعماء الكرملين بوتين ومعاونيه- باتوا يشعرون بتجدد الثقة في أحوال بلدهم وخاصة بعد انقضاء حقبة التسعينيات، التي يراها المؤلف مرحلة من المهانة التي تجرعتها روسيا.

.. وجاء رجل الاستخبارات

في غمار هذه الظروف التعسة، برز الكادر الاستخباراتي- رجل الكي. جي. بي سابقاً فلاديمير بوتين على مسرح الأحداث، كي يجعل من أولى مهامه قيادة نوع من التحول عن سياسات يلتسين، وفي محاولة لتعويض ما ضاع هدراً وتبديداً من مكانة روسيا التي طالما نعمت بها على مدار فترة الحرب الباردة التي استطالت ما بين أواخر الأربعينيات ومطالع الخمسينيات وحتى مطلع تسعينيات القرن العشرين.

إن مؤلف الكتاب يلخص النظرة الإيجابية لعهد بوتين ومؤيديه في عبارات تقول بما يلي: إن الأمة التي ذاقت طعم المهانة خلال سنوات التسعينيات ما لبثت أن تبّدلت أحوالها، لكي تصبح قوة عالمية متجددة وعائدة إلى مسرح الأحداث.

أما عوامل هذا التغير الإيجابي على نحو ما تصورْته هذه القيادات الجديدة سواء في دوائر صنع القرار في الكرملين أو في دوائر التشريع في مجلس الدوما البرلماني، فيعاود مؤلفنا تلخيصها على النحو التالي: ها هي روسيا (في عهد بوتين) وقد أصبحت أكثر استقلالية وأضحت عنصراً (عالمياً) تزداد الحاجة إليه، فضلاً عن ازدياد ثقتها في نفسها وتدعيم ما أصبحت تنعم به من مكانة ونفوذ بأكثر من أي وقت مضى منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

ثم يعمد المؤلف إلى استخلاص أنماط السلوك الروسي الراهن، وهي الأنماط التي أفضت إليها هذه الثقة المستجدة التي باتت روسيا تشعر بها مع السنوات الأولى من هذا القرن الجديد.

لقد بلغ أمر موسكو ــ كما تقول طروحات هذا الكتاب- إلى أنها أصبحت تعتقد بأن بات في وسعها مستقبلاً أن تُملي أساليب تعاطيها، أو فلنقل قواعد اشتباكها مع الغرب (أميركا والاتحاد الأوروبي)، بل وصل أمر هذه الثقة المستجدة أو المستَّردة أن ساد التصور بأن على العالم الخارجي أن يكيّف نفسه إزاء روسيا وليس العكس .

روسيا أمام عالم متغير

ويؤكد المؤلف أيضاً على ضرورة أن تعزز روسيا إيمانها بأهمية التغيير. وبمعنى أنه لم تعد أفكار وسلوكيات وقرارات الحرب الباردة تصلح في مرحلتنا الراهنة: الحرب الباردة كانت تدور في إطار نظام دولي قائم وقتها على أساس ثنائية القطبين، أما هذه العقود الاستهلالية من الألفية الثالثة فهي تستند إلى لانظام دولي كما يتصور المؤلف، وإلى غياب لمنظومة مفهومة أو مستقرة تؤدي وظيفتها في إطار راشد أو معقول، تأمل مثلاً ما يحدث في منطقة مثل الشرق الأوسط (داعش) أو في بلد مثل أفغانستان (طالبان) أو في قارة مثل افريقيا (بوكو حرام). كل هذا يؤدي، في رأي المؤلف، إلى نظام دولي متعدد الأطراف، إن لم نقل متعدد الأقطاب، ومطلوب من بلد كبير مثل روسيا أن يدرك حقيقة هذه المتغيرات التي لاتزال تؤثر على ساحة الواقع العالمي.

في كل الأحوال، يدعو المؤلف زعامة الكرملين الراهنة إلى تجنب الإحالة إلى زمن أو سلوكيات الحرب الباردة، في إطار ما تحاوله موسكو من استعادة مكانتها قطباً دولياً يحسب له كل حساب، يندد بما فعلته روسيا حين طرحت نفسها على أنها قوة أوراسية (أوروبية – آسيوية)، موضحاً في هذا السياق بالذات أنها لم تستفد من هذه الثنائية، حيث همّشت نفسها في أوروبا فيما لاتزال معظم أقطار آسيا تتصور روسيا دولة دخيلة على القارة الآسيوية .

حتى على مستوى الدول المتاخمة مباشرة للكيان الروسي ترى الفصول الأخيرة من هذا الكتاب أن سلوك موسكو العنيف إزاء ملابسات الصراع في أوكرانيا، يمكن أن يؤدي إلى تغيير الأحوال في كيانات قريبة من روسيا مثل بيلاروسيا (البيضاء) أو كازاخستان مما يهدد بتحويل مواقف تلك الكيانات من الولاء لموسكو وصداقتها إلى مناوأة موسكو وربما مناصبتها مواقف العداء، وهو أمر له عواقبه السلبية بالنسبة لروسيا في مستقبل الأيام

هنالك تركّز فصول الكتاب على ضرورة أن تستثمر روسيا إمكاناتها ومواردها الطبيعية، وخاصة ركازات النفط والغاز، فضلاً عن تحولها بعيداً عن سياسات الحرب الباردة، ثم سياسات النهب وتردّي المكانة على نحو ما شهدته حقبة بوريس يلتسين إلى حيث أصبح مطلوباً من زعامة فلاديمير بوتين الراهنة أن تدرك ما آلت إليه تحولات العالم من نظام القطبين السابق إلى وضعية اللانظام حسب تعبير الكتاب، مما يقتضي اتباع أساليب جديدة وإبداع أنماط غير مسبوقة في مجال الفكر والسلوك السياسي على حد سواء.

المؤلف

الدكتور بوبو لو مفكر أسترالي ، وزميل معاون في برنامج روسيا وأوراسيا في مؤسسة «تشاثام هاوس» في لندن، إلى جانب دوره بالمركز الفرنسي للعلاقات الدولية.

واهتم الباحثون بدراسات المؤلف، ومنها «محور التواؤم: موسكو وبكين والأوضاع السياسية الجديدة»، إلى جانب «السياسة الخارجية الروسية في الحقبة ما بعد السوفييتية: الواقع والوهم وصنع الأساطير».

تعزيز صورة روسيا ليس ترفاً سياسياً

فيما يرصد مؤلف الكتاب خطوات روسيا- بوتين في ساحات السياسة الخارجية، ولا يتوّرع عن أن يشهد للرئيس الروسي الحالي بقدر كبير من الإيجابيات، التي استند فيها فلاديمير إلى الإمكانات التي مازالت بلاده تحوزها، ومن ثم توظفها بقدر لا يخفى من المهارة السياسية لخدمة سياسة موسكو الخارجية.

من هذه الإمكانات، على نحو ما يعددها الكتاب، ما يتمثل في اتساع رقعة ــ مساحة روسيا نفسها، فضلاً عن امتدادها كي تغطي أصقاعاً في أوروبا وفي آسيا على السواء. ومنها أيضاً ما تحفل به الأرض الروسية من موارد طبيعية، يأتي في مقدمتها بداهة ركازات النفط واحتياطيات الغاز الطبيعي، التي تزداد قيمتها النسبية بحكم متاخمتها للقارة الأوروبية التي تفتقر في معظمها إلى هذه المواد الحيوية اللازمة للطاقة من ناحية، فيما تمسّ حاجتها الإنتاجية والتصنيعية إلى هذه المواد نفسها من ناحية أخرى.

بعدها يتطرق المؤلف إلى ما يصفه بأنه الطاقة الذهنية، وهي إمكانات لابد وأن تُعزى موضوعياً إلى إيجابيات الحقبة السوفييتية التي، وإن اتسمت بخشونة التقشف بل وإجراءات التضييق على الحريات كما بات معروفاً، إلا أنها ركّزت على الاهتمام بالتعليم وتدابير تنشئة الأطفال وتدريب الشباب، مما يجعل روسيا الراهنة قادرة على أن تجني ثمار هذه المرحلة بعد أن تطرح أو تنسى دروسها وتجاربها المريرة التي كانت في عقود الخمسينيات إلى الثمانينيات، ثم تستثمر الإيجابيات المتحصّلة وخاصة فيما يتعلق، كما ألمحنا مع مؤلفنا، بما تمّ من تنمية القوى وتطوير المهارات البشرية اللازمة لمواصلة مراحل التنمية المستدامة لعقود مقبلة من الحقبة الزمانية الراهنة.

في ضوء هذا كله، يحاول مؤلفنا أن يوّجه ما يمكن وصفه بأنه نصائح سياسية إلى روسيا الحالية، حين يؤكد على امتداد فصول الكتاب على أهمية تطوير العلاقات البنّاءة بين روسيا وجاراتها إلى جانب ترشيد إدارتها للأقاليم الشرقية- الآسيوية التي تقوم موسكو على أمرها، فضلاً عما يصفه المؤلف بأنه تعزيز صورة روسيا، باعتبارها كياناً يمكن الاعتماد عليه من ناحية ويتحلى بأسلوب عملي، واقعي، براغماتي في معالجة الأمور من ناحية أخرى.

هكذا تكلم توماس غومارت

أبدى دكتور توماس غومارت، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس، اهتماماً كبيراً بكتاب «روسيا والنظام الدولي المضطرب». وكتب يقول، في عرض مطول له، ان مؤلفه بوبو لو قدم للعالم كتاباً حافلاً بالإضاءات حول السياسة الخارجية الروسية، وأوضح بمزيد من التألق والدقة السر في أن روسيا، باعتبارها قوة متراجعة، لا تزال بالغة الأهمية بالنسبة للاستقرار الدولي وللقضايا الدولية ولإدارة الأزمات، وهذا الكتاب سيظل عملاً كلاسيكياً في ميدانه على امتداد العقد المقبل على الأقل.

Email