تطورالنظم السياسية

فوكوياما من نهاية التاريخ إلى «عولمة الديمقراطية»

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي هذا المجلد الحافل بوصفه الجزء الثاني، المكمّل مع الجزء الأول للمشروع البحثي الذي عكف على إنجازه على مدار السنوات الأخيرة أستاذ العلوم السياسية الشهير فرانسيس فوكوياما- الأميركي من أصل ياباني. وفيما تناول المؤلف في الجزء الأول (المنشور عام 2011) نشأة وتطور النظم السياسية- بمعنى آليات إدارة حكم الجماعات البشرية منذ مراحل ما قبل التاريخ وحتى اندلاع الثورة الفرنسية.

فإن هذا الجزء الثاني يتناول تطورات ومآلات النظم السياسية في العالم، مروراً بحقبة الثورة الصناعية، ثم وصولاً إلى المرحلة الراهنة، التي يرصد فيها الكتاب دوامة التفاعلات المحتدمة بين العناصر العديدة التي باتت تصوغ النظم القائمة على خارطة العالم المعاصر.

وهي عناصر تجمع بين التطورات التكنولوجية والتحولات الديمقراطية والصراعات الداخلية والخارجية، وثمة نموذج يراه المؤلف وكأنه الأمثل، حيث يسود نظام سياسي مستقر وديمقراطي ويتميز بكفاءة الإنجاز ويختار له المؤلف وصف (الدانمارك) آية على نظام يطمح إليه المفكرون والمواطنون على السواء.

وفي إطار هذه الطروحات يشير الكتاب إلى التطورات – المفاجآت التي ألمّت بالنظام العالمي ومنها مثلاً صعود الصين أخيراً فيما يندد بظاهرة الرفض أو الاعتراض المتواصل على نحو ما بات يتسم به سلوك الأميركيين تجاه نظم الحكم في بلادهم.

في حجم ضخم قوامه 1245 صفحة، استطاع المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما صاحب مؤلف نهاية التاريخ استطاع أن ينجز مشروعه البحثي الشامل والطموح الذي أصدره في مجلدين، ليتناول فيهما أصول وتطور النظم السياسية منذ عاش الإنسان على ظهر هذا الكوكب، مروراً بأحداث الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.

ومن بعدها كانت الثورة الصناعية التي غيّرت وجه الحياة على الكوكب نفسه، وكان ذلك في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن ثم وصولاً إلى الحقبة الزمانية الراهنة في حياة المجتمع البشري، وقد أطلق عليها فرانسيس فوكوياما وصفاً مبتكراً هو عولمة الديمقراطية.

صدر المجلد الأول من هذا البحث الشامل في عام 2011 وكان يتناول بطبيعة الحال موضوع جذور (أصول) النظام السياسي، فيما يسهب البحث من خلال التفصيل في تقصي هذه الجذور – كما يوضح فوكوياما- منذ زمن الإنسان الأول وحتى ثورة فرنسا الكبرى عام 1789.

وفيما حرصت «البيان» – كدأبها- على تقديم عرض تحليلي – نقدي للمجلد الأول فور صدوره منذ 3 سنوات، فها هي تعاود الإحالة إلى المفكر الأميركي – الياباني كي تتناول من منظور التحليل النقدي أيضاً عرض المجلد الثاني المتمم للمشروع الأكاديمي الطموح، ولمّا يتجاوز ظهوره في مكتبات أميركا سوى أيام معدودات.

والحاصل أن احتفلت الأوساط الأكاديمية والفكرية المعنية بالسياسة: علماً ومنهجاً ونظاماً وتطوراً في أميركا والعالم، بصدور الكتاب الذي نتعايش معه في هذه السطور، ولدرجة أن يطلق عليه المفكر الإنجليزي دﻳفيد رونسمان، الأستاذ بجامعة كامبردج، وصف العمل الملحمي إشارة إلى عنصري العمق والحجم، وقد نضيف من جانبنا وعنصر الصبر والأناة في تناول موضوعات البحث.

نظرة أقرب إلى التشاؤم

يلفت النظر للوهلة الأولى أن مؤلفنا يصدر في التعامل مع مادة الكتاب عن نظرة أقرب إلى التشاؤم إلى مستقبل تطور المنظومات السياسية في العالم، وهذا ما دفعه إلى أن يختار لصياغة العنوان الرئيسي لكتابنا العبارة التالية:

النظام السياسي والانحطاط السياسي

ويستهل المؤلف مقولاته من منطلق أقرب إلى التشاؤم على نحو ما ألمحنا: وهنا لابد أن نعمد إلى استعادة المقولات التي سبق فوكوياما نفسه إلى طرحها في كتابه الباكر الذي نال به شهرة واسعة في مطلع عقد التسعينات.

وقتها كان فوكوياما مبشراً بمرحلة جديدة متفائلة بالنسبة لمستقبل أميركا: كان الرجل يكتب ومن حوله أطلال سور برلين الشهير الذي كان مصيره الهدم في صيف عام 1989، بل وكان هناك أيضاً أطلال القطب المنافس لأميركا على مقاليد زعامة العالم، وهو الاتحاد السوفييتي.

من هنا جاءت حكاية نهاية التاريخ (عنواناً للكتاب الأسبق للمؤلف) وعداً بانفراد أميركا بزعامة العالم، فيما كانت أقرب إلى بشارة بأن مقاليد أميركا في طريقها إلى أن يمسك بها فريق المحافظين الجدد الذين كانت تراودهم نزعات إعادة صياغة عالم القرن الواحد والعشرين ولو بفرض القوة الأميركية، وتحت شعارات غريبة ونابية من المنظور السياسي، وفي مقدمتها شعار الفوضى الخلاقة بطبيعة ثم يأتي كتابنا – الصادر بالأمس القريب - لنجد المؤلف وقد آلت نظرته إلى ضفاف التشاؤم، الذي استقاه من خلال ما أودعه في الفصول الاستهلالية من الكتاب من نتائج تحليله لثمار العقدين اللذين انقضيا على صدور نهاية التاريخ.

منذ ربع قرن تقريباً

في أوائل التسعينات كان فوكوياما الشاب قد توقع هيمنة الرأسمالية اقتصادياً وغلبة اقتصاد السوق- العرض والطلب- على كل مرافق الحياة في العالم، وصولاً إلى تداعي واختفاء النظم والممارسات غير الديمقراطية كما كان يصفها.

لكن ملابسات وتطورات العشرين سنة الأخيرة أطلعته على صعود واستشراء نظام في الصين نجح، وربما تحدّى حين طبّق مزيجاً غير مسبق وغير متوقع ويجمع بين الأخذ بالرأسمالية في الاقتصاد واتباع نهج الشمولية وتشدد الحزب الواحد الحاكم سياسياً.

أطلعته تطورات الأحداث أيضاً- كما يوضح كتابنا- على أن الديمقراطية حسب الوصفات السياسية الغرب – أوروبية والأميركية لم تجد سبيلاً إلى حرفية التنفيذ في بلد أوروبي كبير مثل روسيا، وفي أقطار أخرى على خارطة العالم.

هنا يحاول المؤلف أن يلتمس مخرجاً بحثياً يحاول أن يبرر به هذه التطورات التي يراها سلبية، ويذهب فوكوياما في هذا المضمار إلى القول بأنه لا سبيل إلى ازدهار الديمقراطية ولا إلى نجاح اقتصاد السوق الرأسمالية إلا في ظل وجود دولة تتمتع أولاً بكفاءة الإدارة وثانياً بالانفتاح على العصر وثالثاً – وهذا هو الأهم – بثقة جماهير المحكومين – المواطنين.

في هذا السياق بالذات يبرر المؤلف نشوء حالات التراجع أو الانحسار حيث يلخص القضية في سببين أساسيين:

أولهما يتمثل في فشل المؤسسات الحاكمة في مجاراة وتعزيز التغيرات الاجتماعية على نحو ما أصبح مشهوداً في أميركا اللاتينية (يدلل على ما يقول من واقع بلد لاتيني كبير مثل البرازيل، التي شهدت إصلاحات جذرية واسعة النطاق في حقبة رئيسها الأسبق دي لولا وما لبثت – يضيف كتابنا- أن تحولت، من وجهة نظره طبعاً، إلى أوضاع راهنة من الفساد والمعاناة الاجتماعية والتراجع الاقتصادي).

السبب الثاني يتمثل أيضاً في ما يصفه المؤلف بأنه عجز المؤسسات عن إدارة دفة الحكم ومن ثم عن الاستجابة القادرة – الكفؤة إلى احتياجات الجماهير، وهنا أيضاً يسوق المؤلف نموذجاً من ظاهرة الربيع العربي في مصر على سبيل المثال، وخاصة خلال حكم جماعة الإخوان حيث لم يعمد الفرقاء إلى التمييز بين الفوز في الانتخابات وبين مسؤوليات الدولة بنظامها وإدارتها ومواردها وبما يحقق مصلحة الجماهير.

التطور هو الأساس

بيد أن رحلة التجّول بين فصول هذا الكتاب لا تلبث أن تبدد، ولو بقدر معقول، من روح التشاؤم التي تنطلق منها نظرة المؤلف إلى أحوال العالم وإلى مسير التاريخ، إن فوكوياما يقف ملياً عند المتغيرات التي طرأت عبر المراحل الزمنية التي اجتازها الوجود والكسب البشري على ظهر الأرض، وهو يركز على لفــظ محوري يراه مفتاحاً لكل ما أنجزته البشرية في الماضي وما يتوقع منها إنجازه في المستقبل، هذا اللفظ هو: التطـــــــور والمقصود بالتطور هنا التطور المدروس والمحسوب على طريقة مؤلف كتابنا، وليس علـــى طريقة من سبق من المفكرين، سواء كانوا على طريق الرأسمالية مثل آدم سميث في القرن الثامن عشر أو مثل كارل ماركس في القرن التاسع عشر.

بالنسبة إلى فوكوياما تهدف مسيرة أو سفينة التطور إلى الرسو على مرفأ يختار له مؤلفنا الاسم التالي: الدانمــــارك

هو لا يقصد البلد المعروف بوداعته وهدوئه إذ يقع عند مشارف أصقاع الشمال من قارة أوروبا حيث وقعت مسرحية هاملت الشهيرة عند ويليام شكسبير.

الدانمارك في كتابنا هي رمز، مجرد رمز في التحليل الأخير. كيــف؟

المؤلف يرسم صورة في كتابه للدانمارك الخاصة به، كما قد نصفها. هي أقرب إلى يوتوبيا، دولة خيالية بالنسبة له وهو يدعو النظم والدول إلى احتذاء نموذجها على أنه يمثل مجتمعاً من صنع الخيال لكنه ينعم بالرخاء، ويأخذ بالممارسة الديمقراطية، ويستظل باستقرار الأمن، وتقوم على أموره حكومة رشيدة، حيث آفة الفساد لا تصيب إلا في حدود أقل القليل.

في السياق نفسه، يمضي المؤلف ليضيف موضحاً أن عمليات التدخل التي تباشرها حكومات المجتمع الغربي (أوروبا وأميركا) ومنها ما يحمل لافتة التدخل الإنساني لا تلبث أن تعلن عن رغبتها في تحويل مجتمعات مثل أفغانستان والصومال أو هايتي، إلى دانمارك مثالية أخرى. لكن هذه الدوائر الغربية لم تعرف بعد معالم الطريق المفضية إلى تحقيق هذا التغير نحو الدانمارك في يوم من الأيام.

ولأن المؤلف ضليع في أدبيات اللغة الإنجليزية قدر تبحّره المعروف في مجال العلوم السياسية، فقد عمد إلى اصطناع، حتى لا نقول اختراع، مصطلحات نراها مستجدة على معجم العلوم السياسية، ومن ذلك مثلاً حديثه الذي يحّذر فيه من حالة الاستقطاب التي باتت سمة غالبة على صعيد السياسة في أميركا وحيث أصبحت فضيلة التوافق بين الحزبين الرئيسين – الديمقراطي والجمهوري، نادرة في تصوره بل غائبة.

وهو ما انتقل إلى شعور ومواقف القواعد الجماهيرية التي لم يعد يعجبها شيء في سلوك الإدارة الحاكمة، ومن هنا نجم المصطلح الذي صاغه فوكوياما ضمن سياق يطرحه على الوجه التالي: نحن نعرف طبعاً حكاية ديموكراسي (ديمقراطية) أو أريستقراسي (أرستقراطية)- لكن الشعب الأميركي بات يتبع نهج (الفيتوكراسي) بمعنى الاعتراض على كل شيء، وعلى طول الخط.

استشراف آفاق المستقبل

أبدت صحيفة «فاينانشال تايمز» اللندنية اهتماماً كبيراً بكتاب فرانسيس فوكوياما، في إطار احتفاء الصحافة العالمية الكبيرة به.

وقالت إنه ليس من المألوف أن ينتهي عمل ينتمي إلى عالم العلوم السياسية، ويقع في 600 صفحة ،بطرح سؤال مؤرق وتركه بلا إجابة، ولكن هذا هو ما حدث في الجزء الأول من عمل فوكوياما الهائل والممتد، الذي صدر قبل 3 سنوات، وهو يعود في الجزء الثاني من الكتاب ليقدم ثروة من استشراف آفاق المستقبل جديرة بكاتب عظيم يتحدث عن الديمقراطية.

الديمقراطية لا تطبق في فراغ ولابد من وجود كيان الدولة

 

يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن المؤلف يركز قبل كل شيء على أهمية وجود، مجرد وجود المؤسسة التي تحمل اسم الدولة، صحيح أن الأمر يحتاج إلى الأخذ بأسباب الديمقراطية وسيادة القانون وتوخي جانب المساءلة وضرورة المصارحة – الشفافية كما أصبحت تُسمى، لكن هذا كله عبارة عن مداميك لابد وأن تقوم على دعائم البناء الجوهري.

وفي هذا السياق يؤكد المؤلف على أهمية وجود وصلابة هذا الكيان المركزي- الاتحادي للدولة، وخاصة ما يتعلق بأجهزتها التنفيذية وإداراتها البيروقراطية (بمعنى تلك التي تقدم خدماتها المختلفة إلى الجماهير).

ويسترعي انتباه القارئ في هذا الموضع من الكتاب ذلك الحديث الذي يتناول فيه المؤلف بلداً أفريقياً كبيراً اسمه نيجيريــا، حيث الحديث بقدر لافت من التفصيل عن مشكلات نيجيريا، فيما يضيف المؤلف موضحاً أن غياب الديمقراطية يشكّل في واقع الأمر جوهر مشكلات البلد الأفريقي المذكور: فالذي ينقص نيجيريا بالذات هو – كما يتصور فوكوياما- وجود دولة قوية وحديثة، ومقتدرة، حيث إن الدولة النيجيرية ضعيفة، ليس فقط من حيث القدرة التقنية ولا من حيث القدرة على إنفاذ القوانين بصورة موضوعية ومحايدة وشفافة، لكن لأن الدولة هناك تعاني من نقص المشروعية.

هكذا يحرص مؤلفنا على التأكيد بأن الديمقراطية بحد ذاتها ليست البلسم الشــافي للأدواء التي تعانيها الأمم والشعوب: هــو يشدد على أن الديمقراطية لا يمكن أن تطبق في فراغ ولابد من وجود كيان وآلية ومؤسسة تحمل اسم الدولة لكي تتولى أمر هذا التطبيق والتفـــــعيل، وفي غياب مؤسسة الدولة الراســـخة، المستقرة، والمتمكنة لا يمكن وضع الديمقراطية موضع التنفيذ.

هنا أيضاً يتوقف الكاتب ملياً عند الطبقات المتوسطة في مجتمع العولمة الراهن، صحيح أن هذه الطبقات البرجوازية، بكل ما قدمته من خدمات لعالمنا وخاصة في مجالات الفكر والإبداع والتطوير والاختراع مازال لها أدوار لابد وأن تضطلع بها على مسار التقدم في عصر العولمة، إلا أن الصحيح أيضاً – على نحو ما ينّبه مؤلف هذا الكتاب- أن تلك الطبقات المتوسطة لم تكن مؤيدة لآليات ودعوات الديمقراطية على طول الخط، ويكفي أن نتأمل مثلاً، ومن منظور العبرة التاريخية سلوكيات واستجابات تلك الطبقات البورجوازية إزاء الأزمات التي واجهت شعوبها في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين.

المؤلف في سطور

يعد يوشيرو فرانسيس فوكوياما في طليعة أساتذة علم السياسة في الولايات المتحدة، وهو من واقع اسمه مفكر أميركي من أصول يابانية. وقد أضاف إلى تخصصه في مجال العلوم السياسية دراسات متعمقة ساهم بها أيضاً في ميدان علم الاقتصاد السياسي. والبروفيسور فوكوياما من مواليد شيكاغو بالولايات المتحدة في عام 1952.

وقد تعلم في ثلاث من كبري الجامعات الأميركية وهي كورنيل ويال ثم هارفارد، وبعدها قام بالتدريس في معهد الدراسات الدولية التابع لجامعة ستانفورد، وقد عمل المؤلف أيضاً نائباً لمدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية في واشنطن ومستشاراً لشؤون السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وفي هذا الإطار أصدر كتابه الشهير الذي دخل به عالم النجومية في مطلع تسعينات القرن الماضي وجاء الكتاب بعنوان «نهاية التاريخ».

 

عدد الصفحات: 658 صفحة

الناشر: مؤسسة فارار، شتراوس وجيرو، نيويورك، 2014

Email