الجيل العربي الجديد

الانتفاضات السياسية اختبرت الروح الجمعية الوطنية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب إطلالة تمزج العرض الصحافي المشوق مع التحليل الأكاديمي المتعمق من جانب أستاذ لعلم التاريخ في كبريات الجامعات الأميركية، أتيحت له سبل الاطلاع والتعايش المباشر مع الأوضاع السائدة في أرجاء منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم عمد إلى تركيز جهوده التحليلية التي أودعها سطور هذا الكتاب، على ما وصف بأنه دول الربيع العربي ما بين مصر بالذات إلى تونس.

حيث يتوقف هذا التحليل عند ما يسميه المؤلف أيضاً بالجيل الألفي، ويقصد به بداهة جيل الشباب العربي في الأقطار المذكورة، المولود مع أواخر سبعينات القرن الماضي، ومن ثم فقد قُيض له أن يتعاطى مع تيار الحياة العامة العريض في بلاده، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مشكلات وتعقيدات وأيضاً من آمال واحباطات مع حلول الألفية الثالثة من تاريخ عالمنا، وتتوقف فصول الكتاب ملّياً عند العلاقة، التي باتت عضوية بقدر ما أصبحت يومية إلى حد لا يستهان به، بين هذا الجيل الألفي وبين شبكة الإنترنت وسائر سبل ووسائل التواصل الاجتماعي بكل ما تنطوي عليه العلاقة المذكورة من إتاحة إمكانات جديدة، فضلاً عن فتح آفاق مستجدة تواجه أفراد هذا الجيل المستجد بمصفوفة من الطموحات والتحديات على حد سواء.

يدور هذا الكتاب حول كلمة يمكن أن يعدّها المحلل السياسي، أو المتأمل الثقافي، مفتاحاً لفهم ما يجري حالياً على صعيد الأرض العربية، والكلمة ببساطة واختصار هي: التغييـــــــــــــــــر، وفيما يمكن للمراقب أو المؤرخ السياسي أن يتوقف ملياً عند معالم وديناميات هذا التغيير، التي يعايشها أهل الوطن العربي في اللحظة الزمانية الراهنة، إلا أن النظرة الأشمل والأعمق لابد وأن تتقصى جذور هذا التغيير وقد نشأت في تربة الحياة العامة بالعالم العربي، منذ عقود عديدة خلت من الزمن العربي المعاصر.

هنا يجدر بنا أن نعود إلى مرجعية علمية، تتمثل في الكتاب الجامع الذي سبق إلى إصداره الكاتب المؤرخ يوجين روخ بعنوان »العرب: تاريخ«.

وفي استهلال ذلك الكتاب، الصادر منذ 5 سنوات في ما يزيد على 550 صفحة، يتوقف أيوجين روخ ملياً عند سنوات القرن التاسع عشر، التي يصفها بأنها الحقبة الثانية (بعد مراحل نهضة الإسلام في بغداد والأندلس) للعظمة العربية، وقد تجلت خلال عقود القرن المذكور فيما أصبح يعرف بوصف النهضة التي أضاءت كما يضيف روخ- عدداً كبيراً من المجتمعات العربية، وفي إطارها أقدمت مصر على تأسيس أول صناعة سينما عربية، فكانت بذلك ثالث سينما في العالم، وشهد الوطن العربي ما بين القاهرة إلى بيروت وما بين بغداد إلى كازابلانكا (الدار البيضاء) إبداعات الرسامين والشعراء والموسيقيين والمسرحيين والروائيين، وهم الذين يرجع إليهم الفضل في صياغة ثقافة عربية جديدة ونابضة بالحياة.

عند مطلع الألفية

وعندنا أنه رغم استمرار هذه الموجة المتوّثبة التي نجمت عن النهضة مع عقود القرن العشرين، إلا أن العالم العربي ما لبث أن شهد وعانى موضوعياً من حالات التراجع أو النكوص، وأحياناً الانتكاس، فكان أن دخل سنوات الألفية الجديدة محّملاً بكل ما أفضت إليه هذه الحالة من الأدواء التي أصابت معظم مرافق وشرائح المجتمع العربي الراهن، لكن انقضاء السنوات العشر الأولى من القرن المستجد ما لبثت أن آذنت بتغييرات صاعقة أحياناً، إيجابية أحياناً، سلبية وخطيرة في أحيان أخرى.

في هذا الإطار كان من الضروري أن يخفّ الدارسون إلى رصد وتحليل تلك المستجّدات، التي طرأت، وما برحت تطرأ، على العالم العربي بشكل عام، ثم بالنسبة للفرد الذي يحمل صفة العربي على وجه الخصوص.

هذا هو السياق الذي نقرأ على ضوئه سطور الفصول الثمانية التي يحتويها الكتاب الذي نعرض له هنا، وهو من أحدث الأعمال الفكرية الصادرة حديثاً ــ في الولايات المتحدة تحت العنوان الرئيسي المباشر التالي: العرب الجدد (أو الجيل العربي الجديد)،

وكما هي العادة، فالعنوان الفرعي يلقي لمحات ضوء على الموضوع حين يفيد: »كيف يعمل جيل الألفية على تغيير الشرق الأوسط«.

يعمل مؤلف هذا الكتاب ــ البروفيسور جوان كول ــ أستاذاً لعلم التاريخ في كبريات الجامعات الأميركية، وإن تمثلت أهم مزاياه في أنه لم يخلد إلى عزلة البرج الأكاديمي، ولكنه ظل ولايزال منفتحاً إزاء الأحداث المتوالية في العالم العربي، وفي القارة الإفريقية من منظور الرصد والدرس والتحليل ومحاولة استقاء الدروس المستفادة ومن ثم محاولة طرح ثمار هذه الجهود على أوسع قطاعات الجماهير، من خلال تعاطي البروفيسور كول مع أكبر عدد ممكن من وسائل الإعلام.

العرب الألفيون

ثم كان بديهياً أن تبدأ إطلالة مؤلفنا، من خلال المنظور الشامل الذي ألمحنا إليه، بعرض مكثّف ومتعمق لما أطلق عليه المؤلف وصف العرب الألفيين والمقصود بداهة هو جيل الشباب العربي الذي بدأ تعاطيه وتفاعله مع قضايا الشأن العام في خضم الحياة العربية عبر مرحلة زمنية توشك الآن أن تكتمل عقداً ونصف عقد من السنين. في هذا السياق يحيل المؤلف إلى ملاحظة لماحة أدلى بها الروائي الياباني هاروكي موركامي ويقول فيها: إذا كنتَ شاباً وموهوباً، فكأنك تملك أجنحة تُحلّق بها في أجواز الفضاء.

وهنا يُعلّق مؤلف كتابنا مشيداً بما يشهده وطننا العربي، وكأنما يأتي تعليقه مشوباً في تصورنا بقدر من الغيرة أو حتى الحسد الفكري أو حتى الأكاديمي، حين يقول المؤلف بغير مواربة ما يلي: نعم، العالم العربي مازال في شرخ الشباب: ففي بعض أقطاره لا يزيد متوسط عمر السكان على 24 سنة، مقارناً بضعف هذا المتوسط في عمر السكان الذين شابت وشاخت رؤوسهم في اليابان أو ألمانيا.

هؤلاء الشباب- يضيف مؤلفنا- مولودون في الفترة 1977 ــ 2000 وباتوا يُشكّلون جانباً كبيراً مما يوصف بأنه العرب الجدد، ضمن الحجم الشامل لسكان العالم العربي البالغ نحو 400 مليون نسمة.

وقبل التوغل في مقولات هذا الكتاب، يطرأ بإلحاح علمي وفكري السؤال التالي: لماذا هم جدد أو متغيرون؟

إجابة المؤلف تستند ــ كما يقول الكتاب ــ إلى دراسات علم الاجتماع وإلى إحصاءات واستطلاعات الرأي العام، حين يضيف موضحاً أن أفراد هذا الجيل العربي الشاب يزيدون نسبياً عن سابقيهم من حيث أساليب المعيشة الحضرية، وارتفاع مستوى التعليم ومهارات التفاعل مع آليات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فضلاً عن توّجه أكثر عقلانية تجاه العقيدة الدينية.

جيل أحبطته السلبيات

يرصد المؤلف التفاعلات أو مشاعر الإحباط وربما الاكتئاب التي طالما راودت، بل نقول غمرت، شرائح عديدة من هذا الجيل العربي الجديد إزاء ما عاينوه وعايشوه أو حتى تسامعوا به من تيارات وأدواء فادحة السلبية انتابت حياة مجتمعاتهم وأعاقت مسيرة التقدم على صعيدها، وفي مقدمة هذه السلبيات استشراء آفة المحسوبية والفساد وخاصة بين صفوف الطبقات والنخب صاحبة السلطة والصولجان، ولاسيما في الجمهوريات العربية (ص 34)، من هنا بدأت الشرارات الأولى التي ما لبثت أن تحولت إلى ألسنة نيران عصفت بتلك النظم ما بين تونس إلى مصر على وجه الخصوص.

هنا أيضاً يتوقف البروفيسور جوان كول عند ما يرصده في الكتاب من ظاهرة مستجدة على الحياة العربية، في عقد التسعينات، ويطلق عليها الوصف التالي: صعود الإنترنت.

لكننا نلاحظ أن المؤلف لا يتعامل مع صعود وانتشار وربما سيطرة شبكة الإنترنت على مسارات وتوجهات الحياة العربية من منطلق المدح أو التكريس أو الإعجاب على طول الخط، وإنما يتوقف المؤلف معنا كقارئين لمقولات كتابه (الفصلان الخامس والسادس بالذات) عند ما يصفه محللو الكتاب »بأنه التأثيرات الدرامية لشبكة الإنترنت ومعها سبل التواصل الاجتماعي على مسير الأحداث، بل وعلى صورة ومدلولات تلك الأحداث«.

خذ مثلاً ــ على نحو ما يذهب مؤلفنا ــ الحكاية، بل الأيقونة، التي تروي معاناة الشاب التونسي بوعزيزي، وهي التي أشعلت ــ كما أصبح معروفاً ــ شرارة الانتفاضات الشعبية في أقطار عربية، تحكي القصة ــ وقد تناقلتها اتصالات الإنترنت كيف تخرّج بوعزيزي من الجامعة (وهو ما جعله قريباً إلى وجدان وأحوال قطاعات من الخريجين ممن استبدت بهم صنوف المعاناة) في حين أن الحقيقة ــ والعهدة أيضاً على مؤلف هذا الكتاب ــ هو أن الشاب التونسي المذكور لم يكمل تعليمه الثانوي من الأساس وبسبب الفقر، وحتى لم يكن اسمه محمد بوعزيزي بل كان اسمه طــارق وإنما رفعته إلى هذه المرتبة بعد انتحاره التراجيدي وسائل الاتصال الاجتماعي.

الانتفاضات.. دروس مستفادة

جاءت الانتفاضات ــ الانفجارات السياسية ــ الاجتماعية التي شهدتها الحالة في مصر تطوراً طبيعياً، وهنا أيضاً يتوقف المؤلف عند الدروس المستفادة ــ رغم ما شابَ هذه الحالة ومتغيراتها من مشكلات أو سلبيات، وفي مقدمة هذه الدروس ما يصفه البروفيسور كول بأنه تلك الروح الجماعية (وقد نصفها من جانبنا بأنها الروح الوطنية الجامعة) التي كانت تدفع مثلاً بالشباب القبطي في مصر إلى الاصطفاف خلف جموع المصلين من مواطنيهم من الشباب المسلم لحمايتهم من مغبة البطش أو التهديد بالاعتداء.

كانت تلك واحدة من السمات الإيجابية بكل تأكيد التي اتسمت بها، أو فلنقل أضفتها تلك الروح المتوثبة، الشبابية بامتياز، على ساحة الحياة في الأقطار العربية التي شهدت تطورات الظاهرة التي مازال يشير إليها المراقبون والمحللون تحت عنوان الربيع العربي.

وفيما يشيد هذا الكتاب بهذه المستجدات دون أن تغيب عن مؤلفه، ما لحق بها من مشكلات مازالت تعوق تحقيق الغايات المستهدفة، إلا أن قارئ هذا الكتاب لا يفتأ يلاحظ كيف أن البروفيسور جوان كول مازال يعقد آمالاً واسعة على ما وصفه على امتداد صفحات الكتاب بأنه »الجيل الألفي« بل ويراهن على قدرات وطموحات أفراد هذا الجيل، برغم لحظات كانت عصيبة، تَصَادَف فيها وجود المؤلف مع قرينته وولده في قاعة توت عنخ آمون بمتحف ميدان التحرير في القاهرة، حيث عايش بل وكابد اندلاع تظاهرات عاصفة في الميدان وكان ذلك ــ كما يقول المؤلف ــ في الأول من أغسطس من عام 2011.

 

الخصخصة والانفراد بالحكم صنعا مظلومية شعبية

يُسلّم مؤلف الكتاب بكل ما استجد من تطورات على المجتمع العربي في الأقطار التي شهدت انتفاضات السنوات الأربع أو الخمس الماضية، وهنا أيضاً يحرص المؤلف على الإحالة إلى نخبة من محللي التطور السياسي وعلماء الاجتماع، في محاولة للتمييز بين جانبي الثورة السياسية والثورة أو التغييرات الاجتماعية.

وفي هذا السياق يحاول تلخيص مشكلة ــ أزمة الأجيال التي مازالت تُصنَّف ضمن فئة الشباب وربما ضمن فئة ما بعد الشباب، من رجال ونساء، حيث يورد المؤلف رؤيته التحليلية لأحوال وتطورات ومآلات الوضع في أقطار الربيع العربي، وخاصة في مصر، على النحو التالي: لقد نشأ جيل الألفية على أساس الإيمان بالدولة الإنمائية (الدولة المسؤولة عن التنمية) وبمعنى وجود ودور الحكومة كوسيلة لتحقيق الاستقلال الوطني عن الهيمنة الاستعمارية والسيطرة ما بعد الإمبريالية، بل كان النظر أيضاً إلى الدولة ــ الحكومة بوصفها قاطرة التحول الصناعي وإيجاد فرص العمل، ثم باعتبارها وسيلة لتعليم أجيال جديدة من سكان الحضر، والذي حدث أن ما كان يحمل عنوان الحكومات الثورية العربية ظلت تعمل بصورة غير مباشرة أو غير محسوسة على حث الشعب خلال العقود التي تلت التخلص من السيطرة الأوروبية (الاستعمارية) على تأجيل الممارسة الديمقراطية، لصالح تحقيق تلك الأهداف الإنمائية، وتحت شعار إن بلوغ تلك الأهداف يحتاج إلى دولة قوية لا يفّت في عضدها أحد.

هنا أيضاً يواصل مؤلفنا تحليله ليضيف ما يلي بالحرف الواحد: لكن مع حلول القرن الواحد والعشرين أصبح واضحاً بجلاء أن الدولة الناصرية (نسبة إلى حقبة وسياسات جمال عبد الناصر) التي نجحت في مضاعفة دخل الفرد (في مصر) بين عامي 1960 و1970، وأنجزت إنشاء عدد كبير من المصانع، قد شارفت على مرحلة الاحتضار، ومع اتخاذ الخطوات التي طرأت نحو الخصخصة، فضلاً عن طول فترة الانفراد الأوتوقراطي بمقاليد الحكم أصبحت الدولة (في مصر) عبارة عن مشروع خاضع للنفوذ الغربي، وكان أن اتجه المجتمع نحو شعور بالمزيد من عدم المساواة.

 

المؤلف في سطور

يشغل جوان كول كرسي ريتشارد ميتشل لعلم التاريخ في جامعة ميتشغان بالولايات المتحدة، وبحكم هذا التخصص فقد تركزت اهتماماته البحثية والأكاديمية على منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وعلى تطورات الشأن السياسي والاجتماعي في العالم العربي- الإسلامي، الذي عاش في كنفه 10 سنوات تقريباً، حيث ظل يتابع أحداثه ويهتم بتطورات المشهد العام على صعيده، وخاصة منذ نشوء ما أصبح يوصف بأنه ظاهرة الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا.

ويحرص المؤلف على التعبير عن آرائه وطروحاته السياسية، وخاصة من خلال المقابلات والأحاديث التليفزيونية .

 

هكذا تكلمت »المونيتور«

أبدت صحيفة »كريستيان ساينس مونيتور« الأميركية اهتماماً كبيراً بكتاب »الجيل العربي الجديد«، ووصفته بأنه عمل طموح وناجح إلى حد كبير، وقالت إن الصورة التي رسمها المؤلف للجيل الألفي العربي هي صورة ثرية وعميقة وتتسم بالتفاؤل على نحو غير متوقع، وإنه لا يتردد في رسم بعض الملامح الخاصة بهذا الجيل، حتى وإن لم تكن متألقة.

عدد الصفحات: 348 صفحة

تأليف: جوان كول

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة سيمون آند شوستر، نيويورك، 2014

Email