أحداث أوكرانيا وتأثيرها على الشرق الأوسط

أميركا مطالبة باستراتيجية للتعامل مع الشرق الأوسط

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يُعد هذا الكتاب أقرب إلى التقرير السياسي. وهو يرصد مجريات الأحداث وتطوراتها التي شهدتها الفترة القريبة الماضية في أوكرانيا بكل ما حفلت به من حالات شد وجذب بين حكومة كييف الممالئة للغرب - الاتحاد الأوروبي، وبين المعارضة الأوكرانية التي تدعو إلى استمرار الارتباط بروسيا .

وخاصة في ضوء المواريث الثقافية ــ التاريخية ــ اللغوية المشتركة بين الطرفين، يضيف الكتاب إلى هذا الوضع المتأزم في منطقة البحر الأسود وشرق أوروبا، متابعته وتحليله لسلوكيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي مازال يعمل جاهداً على استرداد الدور الذي كانت تتمتع به بلاده.

سواء في إقليم الشرق الأوروبي من حيث متاخمته للأصقاع الآسيوية، أو على صعيد السياسة الدولية بشكل عام، خصوصاً وقد عاشت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي- مرحلة من الاستضعاف السياسي خلال حقبة بوريس يلتسين في عقد التسعينات من القرن الماضي، وهي الحقبة التي شهدت ــ كما يوضح الكتاب ــ توقيع مذكرة بودابست عام 1994 التي تعهدت فيها روسيا باحترام وحدة أوكرانيا.

ولأن هذه التطورات مازال لها تأثيرها العميق في أميركا فالكتاب يؤكد أهمية التعامل من جانب واشنطن مع ما يجري في شبه جزيرة القرم بحزم وبما يدلل على إمساك أميركا بمقاليد القيادة وبحيث ينعكس هذا الحزم على مصالح الولايات المتحدة وعلى الأطراف التي تتعامل معها أميركا في منطقة الشرق الأوسط.

مر عشرون عاماً بالتمام والكمال على مذكرة بودابست. وقد شهدت مناقشتها وتوقيعها عاصمة المجر (هنغاريا) مع السنوات الأولى من عقد التسعينات وكانت مرحلة حافلة بالمتغيرات والتوترات أيضاً.

وقتها كانت قد انقضت خمسة أعوام على المشهد التاريخي، بل الدرامي الذي تابعه عالم سنة 1989، وهو مشهد سقوط وانهيار سور برلين الذي كان يفصل، كما هو معروف، بين شطري العاصمة الألمانية إلى شرق شيوعي يدور في فلك المعسكر المسمى وقتها بالاشتراكي ويشكل رقماً صحيحاً ومحورياً في حلف وارسو، وبين نظيره الشطر الغربي من برلين الذي كان يتبع نهج الرأسمالية ويدور في فلك المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ويشكل بدوره عضواً أساسياً في حلف شمال الأطلسي (ناتو).

وبديهي أن جاء انهيار سور برلين بمثابة جرس إنذار يومئ إلى سقوط المعسكر الشيوعي، فيما جاء بمثابة نوبة صحوة كما يقول المصطلح العسكري، يومئ بل يبــشر بانتصار المعسكر الغربي الرأسمالي.

بعدها توالت الأحداث عبر السنوات الخمس الفاصلة بين عامي 1989 و1994، ولم يكن أهونها كما أصبح معروفاً، انتهاء الحرب الباردة وتفكك المعسكر الاشتراكي، وتصدع وزوال الاتحاد السوفييتي نفسه (حقبة ميخائيل غورباتشوف) ثم تحوُّل أقطار شرق أوروبا من النهج الشيوعي - الشمولي إلى نهج جديد يستهدي بأجندة رأسمالية بصورة أو بأخرى.

وبصرف النظر عن هذه التحولات التي طرأت ــ كما أسلفنا ــ على أوروبا الشرقية، فقد كان الأهم ــ في نظر راصدي تلك الفترة هو روسيا ذاتها ــ السوفييتية سابقاً وقد تحولت قيادتها إلى يد بوريس يلتسين الذي اتسمت حقبته على مدار عقد التسعينات بكل آفات الانحسار الاقتصادي والتراجع الوطني بل والفساد الضارب أطنابه في كيان الدولة والمجتمع في آن معاً.

تداعيات المشهد الأوكراني

في ظل هذه الأجواء التي شهدت استضعاف روسيا ثم توقيع مذكرة بودابست التي بدأت بها هذه السطور: كان على رأس الموقعين كل من أميركا وروسيا والمملكة المتحدة (بريطانيا)، إلى جانب الدول السوفييتية السابقة وأهمها أوكرانيا بطبيعة الحال، وفي المذكرة كانت روسيا قد تعهدت بالحفاظ على كيان أوكرانيا.

وها هي أوساط الزعامات السياسية من مراقبي العلاقات الدولية، تستعيد المرحلة السابقة على ضوء المستجدات بالغة الخطورة التي تتطور كل صباح وتحيط بتطورات العلاقات بين الغرب بشكل عام وبين روسيا بشكل خاص حول الشأن الأوكراني بالدرجة الأولى.

من هنا جاء اهتمام المراقبين السياسيين بتداعيات المشهد الأوكراني الراهنة بكل أبعاده السياسية - الإثنية - الاقتصادية والثقافية بشكل عام.

ما بالنا عندما نطّل على مثل هذه الأبعاد دائمة التــطور من منظور يهمنا في الوطــن العــربي بالدرجة الأولى، وهذا المنظور هو: مستقبل الشرق الأوسط.

مثل هذا المنظور كان ولايزال كفيلاً باسترعاء اهتمام المحلل السياسي العربي، خصوصاً وقد لخّصه عنوان الدراسة التي نتعايش مع أفكارها وتحليلاتها في هذه السطور، وتحمل العنوان التالي: «كيف تؤدي أوكرانيا إلى تشكيل مستقبل الشرق الأوسط».

ويزيد من أهمية الدراسة موقع مؤلفها بين صفوة الخبراء الأميركيين في مجال السياسة الخارجية ومضمار العلاقات الدولية.

المؤلف هو السفير دينيس روس الدبلوماسي الأميركي المخضرم الذي يجمع بين خبرة أكاديمية واسعة بالشأن الروسي - السوفييتي الذي كتب فيه رسالته للدكتوراه، وبين خبرة ميدانية مباشرة من خلال عمله مبعوثاً رئاسياً إلى منطقة الشرق الأوسط على مدار 12 عاماً خلال ولايتي الرئيس جورج بوش- الأب ثم كلينتون على السواء.

عن سياسات بوتين

يستهل المؤلف مقولات كتابنا بمتابعة وتحليل لسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: يوضح أن موقف بوتين إزاء قضية أوكرانيا وما ارتبط بها من إلحاق شبه جزيرة القرم بالكيان الروسي.

فضلاً عن نهج التواصل مع الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا ذاتها إنما يمثل موقفاً ثابتاً أو متكرراً على حد ما يذهب إليه السفير روس الذي يوضح - كيف أن خطوة بوتين بالنسبة للقرم لم تكن جديدة ولا غير متوقعة، وفي هذا يقول مؤلفنا: «لقد فعلها فلاديمير بوتين من قبل، فَعَلها بالنسبة لمناطق شتى: أبخازيا، ترانسترا، أوسيتيا الجنوبية، وأخيراً القرم.

فعلها ــ يضيف المؤلف ــ حيثما توجد مناطق تضم الروس من الجمهوريات السوفييتية سابقاً التي ليست مستعدة لأن تحذو حذو الخط الروسي الراهن.

في هذا الإطار، يمضي السفير روس فيتوقع المزيد، في تصوره، من الحركات الانفصالية في تلك الأرجاء.

وهي الحركات التي يتوقع أن تدعو إلى الانفصال عن دول وكيانات قائمة حالياً ومنها مولدوفا وجورجيا، على نحو ما هو الحال بالنسبة لحالة أوكرانيا، فيما يؤكد المؤلف في السياق نفسه أن مثل هذه الحركات الانفصالية المتوقعة سوف تجد مؤازرة وتأييداً من جانب روسيا - بوتين، وبصرف النظر عن وجود صكوك واتفاقيات دولية شاركت روسيا في التوقيع عليها وتعهدت من ثم باحترام السلامة الإقليمية لأوكرانيا، ومنها بالذات مذكرة بودابست على نحو ما أوضحنا في مستهل هذه السطور.

ما الذي تغير إذاً؟

المتغير من حيث الزمان هو أن عام 2014 الراهن هو غير عام 1994 الماضي، وهو أيضاً من حيث المكان والزعامة أن روسيا - يلتسين كانت مستضعفة، أما روسيا - بوتين فقد أصبح في وسعها كما يضيف مؤلفنا أن تفرض إرادتها دون كبير اهتمام بما يترتب من نتائج.

ماذا إذاً عن نتائج الشأن الأوكراني، بكل تعقيداته في الحاضر، وكل مآلاته في المستقبل؟

يجيب المؤلف قائلاً إن الأمر يحتاج إلى ثمن مدفوع. صحيح أنه لن يخوض أي طرف (غربي) غمار الحرب من أجل القرم، حتى ولو كان هذا الطرف هو أوكرانيا ذاتها: لكن مطلوب دفع الثمن السياسي والاقتصادي على كل حال.

ماذا عن الخيارات؟

في هذا السياق يعمد المؤلف، بحكم خبرته الطويلة في لعبة السياسة ــ الخارجية على وجه الخصوص ــ إلى طرح عدة بدائل وخيارات أمام دول الغرب وفي مقدمتها أميركا بطبيعة الحال.

من هذه الخيارات مثلاً أن يقرر الغرب مقاطعة أي اجتماعات مالية أو تجارية تضم الروس، كما أن هناك في تصوره مواصلة وربما تعميق فرض العقوبات على الروس على أن تكون هادفة بمعنى تستهدف شخصيات وفعاليات بالغة التأثير في الكيان السياسي والاقتصادي داخل الاتحاد الروسي.

هنا يستدرك المؤلف موضحاً أن أمام الكرملين إجراءات يتخذها على سبيل الرد، وفي مقدمتها وقف تزويد غرب أوروبا بإمدادات النفط والغاز الروسية ولأوكرانيا بالذات.

هنا أيضاً يردّ المؤلف على هذه الفرضيات قائلاً إن الرئيس بوتين يدرك أن معدل النمو في اقتصادات بلاده لم يصل بعد إلى المستوى المرموق ولا حتى المطلوب. والمعنى أن موسكو يمكن بمثل هذه الإجراءات أن تفقد أسواق الطاقة التي تدّر على خزائنها عائدات وفيرة.

في هذا الصدد أيضاً لا يتورع المؤلف عن مطالبة الرئيس الأميركي أوباما بأن يترجم تهديداته الموجهة ضد خطوات الكرملين الروسي إلى إجراءات وأفعال على أرض الواقع، يُلمح السفير دينيس روس مثلاً إلى أن ثمة موردين آخرين يمكن أن يعوضوا أوروبا عن إمدادات النفط والغاز، وتتصدر قائمة هؤلاء الموردين - والعهدة على المؤلف - الولايات المتحدة ذاتها.

عند هذا المنعطف يتحول كتابنا إلى تأثيرات هذه المتغيرات التي يتصورها على أحوال منطقة الشرق الأوسط:

يؤكد من وجهة نظره أن ترجمة أوباما تهديداته وأحكامه إلى أفعال وإجراءات تمثل أمراً مهماً بالنسبة للأطراف المختلفة في منطقة الشرق الأوسط.

مضيفاً أن تلك الأطراف ظلت ترقب تطورات الأحداث في شبه جزيرة القرم وتابعت في تصوره حتى لا ننسى - مثلاً آخر على استعداد روسيا أن تتحدى المعايير الدولية وأن تتصرف بمنطق القوة وهو ما يؤثر في ميزان القوى العالمي الذي ما برح محلاً للمتابعة والرصد من جانب الكثير من أصدقائنا الشرق أوسطيين.

كما يصفهم مؤلف هذا الكتاب، ومضيفاً أنهم باتوا يتصورون أن أميركا ما برحت مترددة، متقاعسة عن التصرف بوجه ما قد ينشأ من التحديات الإقليمية التي من شأنها تحويل موازين القوي، سواء ضد أصدقاء أميركا أو ضد مصالح واشنطن ذاتها في منطقة الشرق الأوسط.

يذهب المؤلف أيضاً إلى أن مشكلة أميركا في مثل هذه الأحوال أنها أصبحت، بنظر أصدقائها، تكتفي بالتحذيرات في حين أن الروس (ومن يتحالفون معهم) يمضون إلى اتخاذ الإجراءات.

أوكرانيا محّك اختبار

من هذا المنظور أيضاً نلاحظ أن مؤلف الكتاب يعتمد قضية أوكرانيا وكأنها محك اختبار لواحد من أهم المنعطفات المحورية التي حلّت بعالمنا خلال هذه السنوات الاستهلالية من الألفية الثالثة: والاختبار ليس على أرض أوكرانيا بقدر ما يمتد إلى اختبار تطورات الأوضاع والأحداث في الشرق الأوسط.

والمعنى أن الكتاب إذ يطالب أميركا بالتدليل على حكمة القيادة وحزم القرار إزاء قضية أوكرانيا وما قد يتبعها من تحولات إثنية ولغوية وقومية وحدودية وما إليها، فهو إنما يتحول بهذا المنظور إلى دور أميركا في منطقة الشرق الأوسط بكل ما تموج به في الفترة الراهنة من وقائع وأحداث، وما قد ينتظرها من تطورات وتحولات تمّس مصالح أميركا في الصميم.

على كل حال يطالب السفير دينيس روس اعتماد دائرة وربما دوائر حوار مفتوحة وصريحة ومتعمقة بين أميركا وبين شتى الأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، يرى أن جولة الرئيس أوباما الأخيرة التي زار فيها عدداً من دول المنطقة، يمكن أن تكون قد فتحت بعضاً من آفاق هذا الحوار السياسي الصريح.

وخاصة في ضوء ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من مبادرات يتوقف المؤلف عندها ملياً وفي مقدمتها مثلاً إرهاصات صفقة أسلحة روسية بين مصر وروسيا، فضلاً عن مبادرات أخرى يصفها المؤلف بأنها تقصد إلى الحيلولة بين مصر وبين أن تتحول إلى دولة فاشلة (Failed State).

في السياق نفسه، يعاود كتابنا الحديث عن ضرورة تفسير أحداث أوكرانيا (لمواجهة إجراءات روسيا - بوتين) بوصفها المفتاح المفضي إلى استقراء مستقبل الأحداث في منطقة الشرق الأوسط (من منظور المصالح الحيوية الأميركية بطبيعة الحال).

يقول المؤلف في هذا الخصوص: «إن مساعدة أوكرانيا على تحقيق الاستقرار لاقتصادها سوف يمثل مهمة ضخمة بحق، ولكن سيظل من الأهمية بمكان في الوقت الجاري، ومهما كان يقتضي من تضحيات، إلا أن هذه التضحيات من الأيسر تبريرها الآن في أوكرانيا بأكثر من أي وقت آخر.

حيث إن مساعدة أوكرانيا سوف تشكل رداً على الروس من ناحية، فيما تمثل من ناحية أخرى تذكيراً بالموقع القيادي الذي تشغله الولايات المتحدة وهو أمر سوف تتم ملاحظته واستيعابه على صعيد منطقة الشرق الأوسط.

نحو استراتيجية أميركية

بعدها يضيف المؤلف - من باب الاحتراز العلمي في تصورنا - موضحاً أن مجرد التدليل على حزم أميركا إزاء التصرف الروسي في أوكرانيا لا يمكن أن يشكل بديلاً عن استمرار واشنطن في بذل جهودها وبعمق في الشرق الأوسط.

المؤلف في سطور

يعد دينيس روس من أهم أركان السلك الدبلوماسي في الولايات المتحدة.

وهو يستند إلى تاريخ حافل من التعامل مع القضايا الخطيرة في العالم وفي مقدمتها الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، حيث كرس المؤلف لهذه المسألة أكثر من 12 سنة من أجل الجمع بين الطرفين العربي - الفلسطيني والإسرائيلي - الصهيوني على مائدة تفاوض طيلة الحقبة الرئاسية لكل من جورج بوش- الأب ثم بيل كلينتون.

وقد بذل روس هذه الجهود باعتباره المستشار الأساسي لوزراء خارجية تلك الفترة ما بين جيمس بيكر إلى وارن كريستوفر ثم مادلين أولبرايت.

وإلى جانب هذه الخبرة الطويلة والمباشرة بمنطقة الشرق الأوسط، فإن المؤلف يبرز أيضاً خبرة ميدانية وأكاديمية في الشأن السوفييتي، حيث كتب أطروحته لدرجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في موضوع صنع القرار في الاتحاد السوفييتي.

 ومن هنا توالت الدراسات التي دأب السفير دينيس روس على إصدارها بشأن الاتحاد السوفييتي السابق وقضايا نزع السلاح فضلاً عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن منطلق الفكرة المحورية التي صدر، ولايزال يصدر عنها، وفحواها أن ثمة علاقة دينامية بين ما يجري في أقاليم شرق أوروبا وبين روسيا وما يجري في منطقة الشرق الأوسط، أولاً بحكم التقارب الجغرافي وثانياً بحكم علاقات سابقة وحميمة طالما ربطت بين الطرفين.عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دار نيو رببليك، نيويورك، 2014

Email