الاتحاد الأوروبي وأزمة السياسة الخارجية

أوروبا من معاهدة ماستريخت إلى الأزمة الاقتصادية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أشاد رادسلو سيكورسكي وزير خارجية بولندا بالأسلوب الذي اتبعه الكتاب في مقاربة وتحليل القضايا والمشكلات التي بات يواجهها الاتحاد الأوروبي، وخاصة منذ نشوب الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 وبكل آثارها السلبية التي عانتها وما برحت تعانيها أوروبا.

وفي هذا الصدد يقول الوزير البولندي إن الكتاب - بفضل ما يتميز به من وضوح - بات أقرب إلى دليل عمل ناجح ومفيد لمن يخوض غمار الملاحة في مياه لم يسبق لأحد أن خاض موجاتها وخاصة على مستوى عالم أصبح بدوره يتسم بخصائص العولمة، بمعنى الترابط الأوثق بين المصالح وبمعنى الاعتماد المتبادل بين شتى الأطراف الفاعلة على مستوى هذا العالم.

وفي التحليل الأخير، يمثل هذا الكتاب جرس إنذار موضوعياً على أساس أنه لا يقرع الأسماع من خلال تحذيرات صارخة بقدر ما أن التحذير العلمي الذي تتكرر إيقاعاته عبر فصول الكتاب ينصرف إلى عرض ما آلت إليه أحوال اقتصادات الاتحاد الأوروبي على مدار السنوات العشر الأخيرة من انخفاض شديد في قيمة الصادرات ومن تقلص الكيان الاقتصادي الموّحد.

وفي هذا السياق يحّذر الكتاب من أن هذه الظواهر السلبية يمكن أن تدفع فرادى الدول من أعضاء الاتحاد إلى معاودة ما يمكن وصفه بأنه الانكفاء على الذات من خلال إتباع سياسة واقعية (ريال بوليتيك) التماساً لتحقيق مصالحها الداخلية الخاصة.

 

يبدو أن عين الحسود قد أصابت في مقتل، كما يقولون، ذلك الكيان المرموق، أو الذي كان مرموقاً ويحمل اسم الاتحاد الأوروبي. وبعيداً عن الحسد أو الحقد، فقد كان الكيان الاتحادي الأوروبي موضع متابعة يحفها موضوعياً شعور لا يخفى ظل يراود الأطراف العربية على مدار العقود التي عاشتها التجربة الأوروبية منذ مطلع عقد الخمسينات من القرن العشرين.

ولعل هذا الإعجاب العربي قد استمد أصوله وجذوره من حقائق موضوعية عدة يمكن عرضها بإيجاز شديد على النحو التالي:

أولاً: إن كان ثمة حالة من التوازي بين الجهود العربية لإيجاد نوع من التكامل ومن ثم التضافر والتآزر القومي على صعيد الوطن العربي الكبير، وهو ما شهدته الحقبة الزمنية الممتدة مع أواخر الخمسينات ومطلع ستينات القرن الماضي.

ثانياً: إن العرب كانوا يتعاملون وقتها مع تجربة الوحدة الأوروبية بقدر لا يخفى من الاستغراب، حيث بدأت التجربة المذكورة بخطوات أقل من متواضعة، فيما كان الشعار المطروح متأججاً وقتها ويتحدث بشكل زاعق كما نتصور عن أمة عربية واحدة، أو عن دولة واحدة توشك أن تعلن عن وجودها كي تفرض نفسها على عالمها وعصرها.

وكان ثمة فارق لا سبيل إلى إنكاره بين المشهد الأوروبي المغلّف بروح التواضع البراغماتي الذي يجمع بين عنصري الواقع الملموس والمصالح العملية المشتركة في آن معاً، هذا في حين أن العرب أنشدوا القصائد ولحنوا الأهازيج وتغنوا بأمجاد أمة تمتلك لغة موحدة وتراثاً مشتركاً وإمكانات يُعتد بها، دون أن يصغوا إلى أهمية عوامل التدرج وإلى خطورة المخططات الخارجية التي ترى في وحدة أمة العرب خطراً على مصالح تلك الأطراف الخارجية وعلى مستقبل شعوبها ومن ثم فهي تتربص الدوائر بأي خطوات عربية تتم في هذا المجال.

ثالثاً: إن آفة التخلف الاقتصادي والمعرفي والتكنولوجي التي أصابت الكيان العربي في مجمله بين مشرق ومغرب، تركت آثارها السلبية إن لم تكن الوخيمة مجسدة في تدني مستويات التعليم وتخلف مستويات الوعي بالشأن العام، فضلاً عن الفشل في معالجة أصداء الانقسامات الطائفية أو الأثنية أو الطبقية التي ظل المجتمع العربي في مجموعه يرزح تحت وطأتها.

عن المراحل المتدرجة

لهذا كله استطاع الاتحاد الأوروبي أن يَنشأ وينمو وينضج عبر مراحل متدرجة ومتأنية ومسايرة للواقع العملي في ذلك الإقليم من غرب القارة الأوروبية المطل كما هو معروف على المحيط الأطلسي غرباً وعلى البحر الأبيض المتوسط إلى جهة الجنوب.

من هنا جاء وضع اللبنة الأولى في الهيكل الوحدوي الأوروبي في عام 1950 على وجه التحديد. وحملت هذه اللبنة الأساسية اسم روبرت شومان (1886- 1963) وزير خارجية فرنسا في ذلك الحين، وهو الذي أصدر أول إعلان يتناول وحدة أوروبا، وحمل الإعلان، ولا يزال العنوان التالي: "مشروع (خطة) شومان".

وفي ضوء هذا الإعلان بكل طموحاته، فقد تجنّب ساسة أوروبا رفع الشعارات وإنشاد الأهازيج واستعراض البطولات، وبدلاً من ذلك عمدوا إلى إنشاء اتحاد الفحم والصلب في عام 1952 وكان يضم مجمعاً لهاتين المادتين اللازمتين بداهة للتطور الصناعي ومن أجل مداواة العِلل التي انتابت الاقتصاد الأوروبي خلال نشوب الحرب العالمية الثانية، والدمار الهائل الذي تسببت به.

وكان طبيعياً أن تتطور هذه الخطوات إلى إعلان إنشاء السوق الأوروبية المشتركة في عام 1958، ومن ثم تتواصل الخطوات خلال العقود الزمنية التالية فيما كانت موضوعياً خطوات متأنية وعملية وغير متسرعة وتتبع منهج التجريب واستيعاب دروس التجربة والخطأ إلى حيث بلغت ذروتها في ماستريخت.

وماستريخت هي المدينة الهولندية الوادعة التي لم يكن قد سمع بها أحد، إلا في شهر ديسمبر من عام 1991، وبالذات في يومي التاسع والعاشر من الشهر المذكور، حين اجتمع فيها المجلس الأوروبي لوضع مشروع المعاهدة التي قضت بإنشاء الكيان المستجد على خارطة العالم السياسية تحت اسمه المعروف "الاتحاد الأوروبي".

ولادة عملة اليورو

وحملت المعاهدة بدورها اسم ماستريخت بعد أن دخلت حيز التنفيذ في أول نوفمبر من عام 1993، واكتسبت أهميتها، ولا تزال، من واقع ما عملت على استحداثه من مستجدات كان أهمها كما يلي:

. .

لكن جاءت موجة الإرهاب ومحاربته مع مطلع الألفية الثالثة ثم حلت الأزمة الاقتصادية المالية التي أصابت الهيكل الاقتصادي العالمي في عام 2008 كي تتكسر على صخرتها أحلام وطموحات الاتحاد الأوروبي في مجال السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

تلك هي المقولة التي تصدر عنها طروحات أحدث الكتب الصادرة في هذا السياق ويحمل الكتاب الذي نعايشه في سطورنا الراهنة العنوان التفصيلي التالي: "التركة المضطربة للأزمة: سياسة أوروبا الخارجية تواجه المستقبل".

صدر الكتاب مع مطلع العام الحالي، واهتم فيه مؤلفه - ريتشارد يونغس - بعرض تحليلي للتحديات التي يصادفها الاتحاد الأوروبي فيما تؤدي هذه المشكلات إلى تحجيم - إن لم نقل إحباط - طموحات دول هذا الاتحاد في تطوير وتسيير واتباع سياسة خارجية مشتركة وفعّالة تؤهل الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بدور على ساحة السياسة الدولية، وخاصة في ضوء الظاهرة الثنائية التي تجمع موضوعياً بين رغبة أميركا في التمسك من منطلق الاحتكار بموقع القوة العولمية الأولى في العالم، وبين تطلع روسيا بوتين إلى دور مستجد تستعيد فيه موسكو مكانة أو بعض مكانة القطب الدولي المؤثر على مجريات الأمور سواء على صعيد إقليمها الأورو - آسيوي أو على مستوى خارطة العالم السياسية - الاقتصادية بشكل عام.

الأزمة داخل الاتحاد

مؤلف هذا الكتاب أستاذ للعلاقات الدولية. ومن ثم جاءت قدرته على إتباع منهج التحليل العلمي لما يصفه بأنه أزمة الاتحاد الأوروبي في المرحلة الراهنة. ومؤلفنا يطرح أبعاد هذه الأزمة - من منظوره الأكاديمي - على النحو الدقيق الذي يقول فيه البروفيسور يونغس: إن الاتحاد الأوروبي يعاني من تبعات واحدة من أسوأ الأزمات التي ألّمت به على مدار العقد السابق. وهي أزمة داخلية تؤثر على قدرة أعضاء الاتحاد المذكور من حيث وضع (واتباع) سياسة خارجية متجانسة. وقد أدى ذلك إلى إجبار دول أوروبا على تغيير الأساليب التي تعتمدها إزاء معالجة القضايا الجيوسياسية (التي تجمع عنصري الجغرافيا والسياسة).

بعدها يقف المؤلف عند أهم أبعاد وسمات هذه الأزمة: يصفها بأنها أزمة اقتصادية بالدرجة الأولى.

وهنا يصدر المؤلف عن البديهية المتداولة التي تؤكد أن السياسة الخارجية لأي كيان سياسي (سواء أكان دولة أم كان اتحاداً لمجموعة من الدول) إنما تمثل انعكاساً صادقاً وأميناً للسياسة الداخلية. والمعنى - كما يوضح الكتاب - أن نجاح السياسة الداخلية واستقرار الأوضاع المحلية كفيلان بمنح الدولة - أو الكيان الوحدوي - الاتحادي - مزيداً من القوة التفاوضية في إدارة العلاقات مع الخارج، وهي قوة قد تبدأ من مجال الإنتاج والتصدير والاستيراد، وقد لا تنتهي عند ما أصبح يوصف - على حد تعبير المفكر الأميركي جوزيف ناي - بالقوى الناعمة التي تجسدها عوامل غير مادية مثل العطاء الثقافي والإبداع الفني والممارسات الإعلامية فضلاً عن الثمرات السوبر متقدمة الناجمة عن تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

من هذا المنطلق يمضي مؤلف كتابنا قائلاً: إن قيمة الصادرات الأوروبية، مع بدايات الأزمة الاقتصادية التي أصابت الاتحاد الأوروبي، قد اعتراها انخفاض ملموس إن لم يكن جسيم الخطورة، حيث بلغت نسبته 30 في المائة. صحيح - يضيف كتابنا - إن الاتحاد الأوروبي مازال أكبر طرف يقوم بتصدير منتوجاته على مستوى العالم، لكن الانخفاض الذي عرضنا له كان فادحاً بحق مما يضفي غلالة من التشاؤم على احتمالات المستقبل.

تراجع القوة الناعمة

في السياق نفسه، نلاحظ كيف يربط كتابنا بين الإنفاق العسكري وبين القدرة السياسية بل والمنعة الاقتصادية. يقول المؤلف في هذا الصدد: "في عام 2010 كان إنفاق الاتحاد الأوروبي على أغراض الدفاع هو الأدنى على مستوى الدول الكبرى في العالم. وقد أدى ذلك يضيف المؤلف إلى تراجع ملحوظ في القوة الناعمة للاتحاد المذكور بمعنى مكانته الأدبية، وهو ما يضع هذا الاتحاد في مواجهة سيناريو من التحديات التي من شأنها أن تنال من مكانته التي سبق وتمتع بها على المسرح السياسي الدولي منذ 10 سنوات مضت، هذا فضلاً عن أن هذه السنوات العشر نفسها شهدت بدورها دخول لاعبين جدد لهم أهميتهم التي لا سبيل إلى إنكارها إلى هذا المسرح وهو ما يقتضي وضع وتفعيل استراتيجيات جديدة. وهذا هو الدرس - كما يؤكد المؤلف أيضاً - الذي يتعين على أوروبا أن تتفهمه وتستوعبه وتعمل على أساسه.

في السياق نفسه، يمضي المؤلف إلى تفسير أبعاد هذه الاستراتيجيات التي يدعو الاتحاد الأوروبي إلى وضعها ومن ثم إلى إتباعها. يذهب إلى أن محور هذه الاستراتيجيات ينبغي أن يتمثل فيما يلي: نهج ليبرالي متعدد الأقطاب.

وهنا يدعو المؤلف أيضاً إلى إتباع أسلوب ليبرالي إزاء التعامل مع قضايا الأمن والسياسة على مستوى عولمي كوكبي إن شئت، مؤكداً في ذلك أهمية ما يصفه بأنه احترام ما استجد على الساحة العالمية من متغيرات أدت بدورها إلى ظهور أقطاب جدد وخاصة مع السنوات الاستهلالية من هذا القرن الحادي والعشرين.

في هذا المضمار، يؤكد كتابنا ضرورة أن تقوم أوروبا - الاتحاد الأوروبي بتوسيع آفاق التعاون مع الديمقراطيات الناشئة وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع القضايا الدولية. ويؤكد في الوقت نفسه أهمية أن يبادر الاتحاد الأوروبي إلى تنشيط - أو فلنقل بث الحيوية من جديد - في أوصال المحالفة الأطلسية التي تربط بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.

هنا أيضاً يحذر الكتاب من أن الاستمرار في مواجهة الحالة الراهنة التي يصادفها الاتحاد الأوروبي كفيل - في تصوّر المؤلف - بأن يدفع الدول من أعضاء الاتحاد المذكور إلى التركيز على عنصر الواقعية السياسية، ريـال بوليتيك، كما يقول مصطلح المعجم السياسي، فإذا بها تولي مزيداً من الاهتمام والتركيز على مصالحها الوطنية القومية الداخلية وهو ما قد يفضي إلى آفة الانكفاء من جديد على الذات، ويتم ذلك - إن حدث - على حساب تعزيز توجهات الاتحاد الأوروبي وتطوره مستقبلاً إلى حيث يؤتي ثماره المأمولة.

في التحليل الأخير يوضح الكاتب البريطاني جون بيت رئيس تحرير مجلة "إيكونومست" أن على أركان وأطراف الاتحاد الأوروبي أن يصغوا بكل اهتمام إلى ما يطرحه هذا الكتاب من أفكار ومقولات ويأتي في صدارتها تحذير مؤلفنا من أن استمرار الأزمة الاقتصادية لا يقتصر ضرره على مجرد معاناة الضيق الاقتصادي - المادي، ولكنه يؤدي إلى مضاعفة آلام المخاض التي تصاحب جهود أوروبا في وضع واتباع سياسة مشتركة ناجعة في مجالات الشؤون الخارجية والأمن على السواء.

 

المؤلف في سطور

يعد البروفيسور ريتشارد يونغس من الخبراء الثقات في مجال السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ولاسيما في قضايا الممارسات والتحولات الديمقراطية. وقد درس في جامعة كامبردج وجامعة ووريك في بريطانيا سواء على مستوى الدراسة الجامعية أو الدراسات العليا (الدكتوراه)، وهو يجيد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية مما أتاح له معرفة شاملة ومدققة بتطورات الأحوال على مستوى الاتحاد الأوروبي.

وقد أضاف البروفيسور ريتشارد يونغس إلى هذه الخلفية الأكاديمية تحليلات متعمقة أجراها، وقام بنشرها بالنسبة للمناطق المجاورة لمحور اهتمامه العلمي في الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أفضى به إلى توسيع اهتماماته العلمية لتشمل أيضاً قضايا أمن الطاقة على وجه الخصوص. ويعمل المؤلف حالياً باحثاً أقدم في مؤسسة كارنيغي الأميركية التي التحق بها في صيف عام 2013، كما عمل أيضاً لدى وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث في الحكومة البريطانية، إلى جانب العام الأكاديمي الذي أمضاه زميلاً قديماً في الأكاديمية الأطلسية بالعاصمة الأميركية واشنطن (2012- 2013).

ويُعد كتابه عن أزمة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إصداره الفكري السابع، وهو ما يعكس تركيز اهتماماته كما يقول النقاد سواء على تطورات أحوال الاتحاد المذكور، أو على الاستجابات الأوروبية إزاء ظواهر ما بات يوصف سياسياً بأنه الربيع العربي أو على التحولات الديمقراطية التي أضحت ظاهرة تعيشها أصقاع متعددة من عالمنا بشكل عام.

 

عدد الصفحات: 300 صفحة

تأليف: ريتشارد يونغس

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، واشنطن،

Email