الشقيقـــــــــــــان

مسؤول أميركي هدد بقطع عبد الناصر إلى نصفين

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجسد هذا الكتاب رؤية بانورامية، بمعنى إحاطة شاملة لواقع وتحولات السياسة الأميركية عند أعلى مستويات صنع القرار فيها، خلال حقبة الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور التي استغرقت معظم سنوات عقد الخمسينيات من القرن العشرين.

وهي الفترة التي شهدت ارتفاع شأو أميركا بعد قيادتها انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تسلّمها راية ما كان يوصف أيامها بأنه العالم الحر، في مقابل المعسكر الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي بزعامة جوزيف ستالين.

في إطار هذه الظروف، حدثت المفارقة التاريخية التي يقف عندها الكتاب مليّاً، وتمثلت في تولى الشقيقين دالاس أهم المواقع السوبر- حساسة في إدارة أيزنهاور، حيث شغل جون فوستر موقع وزير الخارجية، فيما شغل ألين دالاس موقع مدير وكالة الاستخبارات المركزية.

بمعنى أنه أصبح هذان الشقيقان يقودان مسيرة العلاقات الخارجية والأنشطة الدولية التي تبذلها آلة السياسة الأميركية في عالم ما بعد الحرب، وهو أيضاً العالم الذي شهد بزوغ قوى التحرر الوطني، ومعها قوى الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، التي اتخذت مواقعها على صعيد ما أصبح يعرف بالعالم الثالث.

ثم تزداد قيمة الكتاب من واقع الجهود الدؤوبة التي بذلها مؤلفه، وهو كاتب صحافي متميز في تحقيق وتمحيص طروحات النص الذي يجمع بين مهارة السرد ودقة التحليل، ثم استقاء العبرة من وقائع التاريخ.

يستند هذا الكتاب في بحوثه التاريخية وطروحاته الفكرية إلى ما يمكن أن نطلق عليه العبارة التالية: الهيكل العددي، لقد عمد مؤلف كتابنا إلى أن ينسج مقولات العمل الذي أنجزه في مضمار التاريخ والتحليل السياسي حول ثلاثة أعداد محورية هي:

- العدد واحد

- العدد اثنان

- العدد ستة

وبالمناسبة، فهذه الفئات العددية الثلاث اختارها مؤلفنا بوصفها عناوين للأبواب الثلاثة التي تتوزع فيها مادة هذا الكتاب.

أما تفسيرها فيوضّحه المؤلف، وهو الكاتب الباحث الصحافي الأميركي ستيفن كنزر، على الوجه التالي: قرن واحد من الزمن + شقيقان اثنان شغلا عند منتصف القرن المذكور (وهو القرن العشرون) أكبر - وربما أخطر- منصبين في إدارة حكومة الولايات المتحدة + ستة من زعماء العالم في تلك الفترة، كان مطلوباً من هذين الشقيقين الإطاحة بهم، وهؤلاء الزعماء الستة هم على وجه التحديد: أحمد سوكارنو في إندونيسيا + باتريس لومومبا في الكونغو + فيديل كاسترو في كوبا + هوشي منه في فيتنام + محمد مصدق في إيران + جاكوبو أربنز في غواتيمالا.

وهم كانوا زعماء ينتمون إلى ما أصبح يسمى في زمن الخمسينيات باسم العالم الثالث النامي، والمتطلع إلى التحرر من تركة الاستعمار والنفوذ الإمبريالي الغربي القديم، فيما يمكن أن نضيف إليهم، من واقع تجربتنا العربية مع الشقيقين بطلي هذا الكتاب اسم الزعيم العربي جمال عبد الناصر، الذي يتردد اسمه وسيرته ومواقفه 11 مرة عبر فصول وصفحات الكتاب.

الجد وزيراً للخارجية

المهم أن الكتاب، إذ يتقصى جذور الشقيقين، فيبدأ بالتسليم بأنهما كانا يشكلان محاور المؤسسة الأميركية، فيما كان جدّهما جون واطسون فوستر وزيراً للخارجية، وكذلك قريبهما روبرت لانسنغ. وقد بدأ الشقيقان باحتراف المحاماة في واحد من أهم مكاتب نيويورك.

والأهمية هنا، كما يوضح مؤلفنا، لم تكن لترجع إلى خدمة الحق أو إعلاء سيادة القانون بقدر ما أن مكتب الاستشارات القانونية المذكور ظل يشكل على مدار عقود، كما يذكر المؤلف، همزة الوصل بين أكبر دوائر الأعمال (عمالقة البيزنس) وبين دوائر رسم السياسة وصنع القرار في الولايات المتحدة.

يشار، في سياق تحليلنا لمقولات هذا الكتاب، إلى أن مؤلفنا يعيب على الشقيقين أنهما عملا على تكريس مبدأ تدخل واشنطن بشكل غير مقبول أو غير مبرر في شؤون الدول الأخرى: صحيح أنهما كانا ينطلقان من مقولة مصلحة أميركا ويرادفها، إبّان فترة الحرب الباردة في الخمسينيات، مبررات التصدي للغريم السوفييتي المهيمن أيامها، سواء على حلف وارسو عسكرياً أو على المعسكر الاشتراكي عقائدياً.

إن هذا المسار أفضى بالرجلين، الوزير جون والمدير ألين، إلى التدخل بكل الأشكال والأساليب من أجل إسقاط أنظمة وإنهاء زعامات تصوّرا أنها معادية للولايات المتحدة ولمصالحها ولمكانتها القيادية في عالم ذلك الزمان.

لكن مؤلفنا يذهب من ناحية أخرى إلى أن من هؤلاء الزعماء، لومومبا في أفريقيا أو مصدّق في الشرق الأوسط على سبيل المثال، من كان يمكن، في تصوّر المؤلف، أن يمد يد التعاون الإيجابي مع الولايات المتحدة تحقيقاً بالطبع لمصالح بلاده الوطنية، ومن منطلق أن الولايات المتحدة دخلت الساحة الدولية، كما أسلفنا، وهي مبرأة، على نحو أو آخر، من مواريث الاستعمار الكلاسيكي المقيت.

 

إهدار الفرصة السانحة

الشقيقان دالاس أهدرا هذه الفرصة، وخاصة وزير الخارجية جون فوستر الذي كان يطل على العالم من منظور بالغ التصّلب إلى حد الجمود. وهنا، يحيل الكتاب إلى واحد من تصوراته الذي يقول فيه دالاس: "بالنسبة لنا، لا يضم العالم سوى صنْفين من البشر: صنف المسيحيين الذي يؤيد ويدعم المشروع الحر.. وصنف الآخرين!"

من هنا يصل فوستر دالاس إلى أن يقول دامغاً سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي عمل على صوغها واتباعها ثلاثي الزعماء التاريخيين (نهرو + ناصر+ تيتو) قائلاً: " الحياد عمل غير أخلاقي".

هنا أيضاً يحرص مؤلفنا ستيفن كنزر (صفحة 212 وما بعدها) من الكتاب، على إلقاء بعض الضوء على نوعية التعامل بين وزير الخارجية دالاس وبين الزعيم العربي، الشاب وقتها، جمال عبد الناصر، وهنا بالذات يتطرق الكتاب إلى المبالغ التي حرصت واشنطن على تقديمها إلى نظام ناصر الجديد في قاهرة الفترة 1952- 1956، ما بين 3 ملايين دولار عرضوها كي ينفقها ناصر كما يشاء (أنشأ بها، كما هو معروف، برج القاهرة) أو 20 مليون دولار قدموها على شكل مساعدات عسكرية مشفوعة.

كما يضيف الكتاب، بوعد بأن تقوم واشنطن بتمويل السد العالي في أسوان، وهو المشروع الحلم، كما يصفه المؤلف، الذي لا يلبث أن يضيف في معرض التعليق قائلاً: لكن كان من غير الواقعي أن يأمل أحد في أن هذا المال المقدم من أميركا سيكون كفيلاً بتحويل عبد الناصر عن إيمانه بمبادئ الحياد (وعدم الانحياز).

من هنا، جاء إعلان وزير الخارجية جون فوستر دالاس عن سحب أميركا وعدها بتمويل السد العالي، وبصورة مفاجئة، إلى حد الإهانة.

في السياق نفسه، يعرض مؤلفنا لملابسات الزيارة التي قام بها للقاهرة الشقيق ألين دالاس مدير الاستخبارات المركزية، موضحاً كيف مضى واحد من رجال الوكالة المركزية المقيمين بقاهرة تلك الأيام، يشرح للمدير الزائر ظاهرة تنامي زعامة عبد الناصر على المستوى العربي القومي، فإذا بمدير الوكالة المركزية ينفجر غضباً، ويقول: "إذا ما عمد هذا الكولونيل الذي تتحدث عنه إلى دفعنا بعيداً، فلسوف نقوم بقطعه إلى نصفين!"

التعصّب المذهبي

في التحليل الأخير، لا يكتفي مؤلف الكتاب بما أسهب في شرحه من سلبيات المنظور الذي ظل الشقيقان دالاس يطلان من خلاله على ما كان يحفل به عالم الخمسينيات من القرن العشرين.

صحيح أنه كان منظوراً ينضح بقدر لا يخفى من التعصب الفكري- السياسي، المشبع، كما قد نقول، بقدر من الغرور المستمد من المكانة التي حققتها أميركا، سواء بعد نجاحها في الثلاثينيات في تخطي محنة الكساد الاقتصادي الرهيب، أو بعد نجاحها في الأربعينيات في قيادة الانتصار على دول المحور التي كانت تضم في قياداتها كلاً من ألمانيا وإيطاليا واليابان.

إن مؤلفنا يحاول أن يلتمس ما يتصوره بأنه مبررات موضوعية تفسر، أو تحاول أن تفسر، ذلك السلوك المتصلب والمغرور أيضاً من جانب الشقيقين بطلي هذا الكتاب. يقول ستيفن كنزر في هذا الصدد: كان الشقيقان يتصديان لقيادة بلدهما في غمار عالم كان يجتاز بدوره حقبة حافلة بتيارات التطرف.

ثم يضيف المؤلف أن هذه الأوضاع أفضت إلى سيادة مشاعر من التخّوف على مدار عقد الخمسينيات المنصرم، وهي مشاعر تملكت كثيراً من الأميركيين، فيما كان الشقيقان في طليعة من روّجوا لهذه التخوفات بين صنوف مواطنيهما، وهو ما دفع كلاً منهم، سواء في عالم الدبلوماسية أو في دنيا العمل السري، إلى بث ونشر روح ومواقف المجابهة مع الاتحاد السوفييتي، وهو ما أدى أو كان جديراً بأن يؤدي إلى إشعال فتيل الأزمات التي عاناها العالم في تلك الحقبة.

وفي هذا المضمار أيضاً، يحرص المؤلف على تجذير الأنساق الفكرية التي كان يصدر عنها الشقيقان على النحو التالي:

لقد نشأ الشقيقان في أسرة تشبعت بروح تبشيرية وتتبع مذهب الكالفينية البروتستانتي، وهو المذهب الذي يصفه مؤلفنا بأنه يتعامل مع العالم بوصفه ساحة قتال أبدي بين قوي القديسين وقوي الشياطين، أي باعتباره ميدان صراع سرمدي بين الخير والشر في التحليل الأخير.

بيد أن المؤلف لا يلبث أن يضيف ملاحظة، دنيوية هذه المرة، ومن شأنها أن تؤدي، في تصورنا، إلى نزع هذا الرداء السوبر- أخلاقي عن تصرفات الشقيقين.

وهنا يقول المؤلف قرب نهايات هذا الكتاب، ما يلي: صفوة القول إن الشقيقْين دالاس أمضيا عقوداً من الزمن وهما يعملان في خدمة المصالح العالمية لأغني الشركات الأميركية، حيث كانا مستوعبيْن تمام الاستيعاب ضمن النظرة الشاملة لدوائر وول ستريت، حي المال والأعمال، إزاء العالم الذي نعيش فيه.

 

المؤلف في سطور

يستمد الكاتب والباحث ستيفن كنزر شهرته بفضل ما سبق إلى إصداره من كتب حازت أهمية كبرى على مستوى المشهد الثقافي- السياسي في الولايات المتحدة، وكان في مقدمها كتابه بعنوان "كل رجال الشاه"، ويتحدث عن تطورات ومنعطفات السياسة الإيرانية في عقود عدة من الزمن (على وزن العمل الفكري والسينمائي بعنوان كل رجال الرئيس).

وقد نال المؤلف عن هذا الكتاب المهم عدة جوائز، فيما نال تقديراً واسعاً عن الدراسات التي سبق أيضاً إلى نشرها من واقع خبرته الطويلة والعميقة بتطورات الأحوال في منطقة أميركا الوسطى وخاصة نيكاراغوا.

يعمل المؤلف حاليا باحثاً زائراً في معهد واطسون للدراسات الدولية التابع لجامعة براون بالولايات المتحدة، كما يقوم بالتدريس كأستاذ بجامعة نورث وسترن.

وخلال الفترة الطويلة التي عمل فيها ستيفن كنزر مراسلاً خارجياً لصحيفة "نيويورك تايمز"، أمضى سنوات في تغطية مناطق الصراعات في أكثر من 50 من الدول عبر القارات الخمس في عالمنا، حيث ظل يوافيها برسائله الصحافية التي تعرضت للتحولات الجذرية التي شهدتها عواصم من قبيل إسطنبول وبرلين وماناغوا (عاصمة نيكاراغوا) وغيرها.

وما زال كنزر ينشر عموده بانتظام في جريد "الغارديان" البريطانية، إلى جانب ما يقدمه من عروض تحليلية لأهم الإصدارات في مجلة نيويورك "ريو أوف بوكس" المعنية بالكتب والدراسات الصادرة.عدد الصفحات: 402 صفحة

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: تايمز بوكس، نيويورك، 2014

Email