«عشت مرتين» سيرة ذاتية

مكالمة من مبارك إلى القذافي توقف برنامجي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

البيان تنشر مذكرات الإعلامي الكبير حمدي قنديل 7-10

+++

+++

بوضوح وشفافية ينطلق الإعلامي الكبير حمدي قنديل ليحقق في هذا الكتاب تكامل معادلة سرد محطات من حياته ومن نضال أبناء جيله، بحيث جمعت في أطرافها بين الأسى والانكسار والفشل من ناحية، والصمود والحلم والإنجاز من ناحية أخرى.

وفي هذه المحطات المتوالية انطلقنا مع المؤلف منذ بداية حياته الإعلامية وسفره للعمل في سوريا، خلال الوحدة مع مصر، ومن ثم بيروت، لنتابع رؤيته لتطور الحركة الوطنية المصرية ومسيرة القومية العربية.

ونحن هنا على موعد معه ،حيث يقدم أول لقاء تلفزيوني أجراه مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ورد فعل الرياض على هذا اللقاء، كما يتناول غرائب القذافي ومنها قراره بتأميم قناة "الليبية" بتدخل مباشر من الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وصولاً إلى مشهد القذافي مقتولاً في أحد أنابيب الصرف الصحي في سرت.

 

في سبتمبر عام 1997 كنت أقدم برنامجاً في «راديو وتلفزيون العرب» "إيه آر تي"، عندما ذهبت إلى القذافي في سرت لأجري معه حديثاً بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح.

بدأ القذافي بالحديث عن تاريخ العالم والأجناس التي سكنته ومؤامرات الاستعمار التي لا تنتهي والتحضير للثورة الليبية، ومع ذلك بدا حديثه متماسكاً في بعض الأحيان، بل شائقاً إلى حد ما في أحيان أخرى.

عندما كادت الساعة المخصصة للحديث أن تنتهي تأهبت للختام، فإذا بيد تمتد من ورائي يقدم لي صاحبها ورقة صغيرة كتب عليها «تم مد الإرسال ساعة أخرى.

تحدث القذافي عن مباريات كرة القدم واستنكر اقتصارها على 11 لاعباً فقط من كل فريق، وعندما سألته عن الحل المثالي من وجهة نظره قال إنه في الجماهيرية الشعبية لابد أن يشارك الشعب كله، ولا يقتصر دوره على الفرجة السلبية، وإنما أن ينزل الجميع إلى أرض الملعب.

بعد اللقاء التقيت الشيخ صالح كامل في باريس، وكان وجهه ينطق بما في صدره، أوجز الشيخ صالح الموقف في كلمات صارت فيما بعد مثلاً يتردد كلما مرت برامجي بالمآزق التي ألفتها: «الجماعة زعلانين»، وأخبرني أنه تلقى مكالمة غاضبة من الرياض، خلاصتها أنني كثيراً ما تركت القذافي يهذي دون أن أجادله.

القذافي مدافعاً عن مبارك

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي التقيت فيها القذافي في عمل تلفزيوني، إذ كانت المرة الثانية في إبريل 2005 عندما كنت أقدم برنامجي «قلم رصاص» من دبي، وكان الحديث في مقره بطرابلس في «باب العزيزية».

عندما دخلت عليه مكتبه بادرني بالسؤال: «لماذا إصرارك على الهجوم على الرئيس مبارك؟»، قلت: «يا سيادة العقيد أنا لا أهاجم، أنا أنتقد»، قال: «ولكن ما اعتراضك بالذات على جمال مبارك؟»، أجبت: «ليس لي عليه أي اعتراض كشخص»، ثم أضفت: «لكن الجمهوريات لا تورث يا سيدي».

تأميم «الليبية»

في مايو سنة 2009، كنت جالساً في سكني في لندن الذي يطل على حدائق كنسنجتون، امتداد «هايد بارك»، أتأهب لإجازة نهاية الأسبوع بعد أن أنهيت تسجيل الحلقة الخامسة من برنامجي «قلم رصاص» في قناة الليبية، عندما دخل عليَّ «توفيق» وهو يهذي بصوت عالٍ: «القائد القائد».

توفيق رجل ليبي طيب في المجمل، يعمل في مجال المقاولات على ما أظن، وهو صديق مقرب من عبد السلام مشري رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الغد» المسؤولة عن القناة، انتدبه ليكون مسؤولاً إدارياً يذلل العقبات أمام برنامجي في أسابيع انطلاقته الأولى، وقد عرفته متزناً رزيناً، الأمر الذي أثار دهشتي لما رأيته يصيح على هذا النحو الهستيري.

«القائد» لأي ليبي لا أحد غير القذافي، والقذافي كما كنت أعلم لا شأن له بنا أو بالقناة، القناة تصدر عن مؤسسة مستقلة عن الدولة هي مؤسسة «الغد».

هذا ما قاله لي مشري عندما التقينا لأول مرة، كنا في شهر يناير، وكان الرجل قد جاء ليتفاوض مع المنتج على شراء بعض المسلسلات والبرامج من بينها برنامجي «قلم رصاص»، وعندما علم أن البرنامج توقف اتصل بي فالتقينا وعرض عليَّ تقديم البرنامج في قناته، وشدد يومها على أن القناة ليست تابعة لإعلام الدولة، وأن «مؤسسة الغد» أطلقتها بتمويل من بعض المنظمات الأهلية، فطلبت منه أن يمهلني حتى نلتقي في طرابلس.

كانت الدنيا من حولي وأنا ذاهب إلى ليبيا قد أظلمت، ليس فيها طاقة نور واحدة، أخذت أحاسب نفسي حساباً عسيراً وأتدبر فيما إذا كان الخطأ يعود إلي أم خطأ غيري، لكن المحصلة في النهاية كانت جلية: لم تعد هناك بلاد تتحمل مشروعي، ولا هناك محطات ذات وزن يمكنها أن تطيق ما أقول، لكنني لم أستسلم.

جلست مع مشري رئيس مؤسسة «الغد» التي تشرف على قناة «الليبية» ساعات في طرابلس نبحث مشروع العقد الذي كان قد أعده، كان كل ما يهمني بالدرجة الأولى قدر الحرية المتاح، وانتهينا في ذلك إلى أن ينص العقد على أن البرنامج «ذو توجه حر»، وهو على ما أظن نص فريد من نوعه في مثل هذه العقود، وإن كانت النصوص لا تضمن الكثير في النهاية.

طال النقاش فيما بعد حول مكان تصوير البرنامج، وانتهينا أخيراً إلى أن البرنامج سيصور في لندن، عاصمة الصحافة العربية المهاجرة.

كان الألم يعتصرني وأنا ذاهب إلى المطار، وكأنني طريد بغير رجعة، كُتبت عليَّ الهجرة مرة أخرى، والأنكى هذه المرة أنني لم أكن أعرف إلى أي عالم أنا ذاهب، كيف هم هؤلاء القوم الذين سأتعامل معهم، وما بالضبط نظم العمل في تلك القناة التي ستأوي برنامجي؟

ما عرفته أن قناة الليبية كانت في منطقة نفوذ «مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية» التي شكلها القائد ليعمل تحت مظلتها الوريث سيف الإسلام، وكان قد تنامى دوره داخل ليبيا، وعندما بدأ الحصار أصبح وجهها المفضل في الغرب.

كان بالغ الاهتمام بالمال وشؤونه، وعلى الرغم من كل ما كان يشاع عن مهاراته وجولاته في المحافل السياسية، فإنه لم يقترب من الساسة البريطانيين قدر اقترابه من ذلك الرجل الجشع المتصابي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي كان مستشاراً لوالده، وهو أيضاً الذي ساعده على نيل الدكتوراه على نحو ما نشرت الصحف البريطانية.

كانت الحلقة الأولى التي أذيعت يوم 26 مارس 2009 أكثر سخونة من التنويه، كان هناك مؤتمر قمة عربية على وشك الانعقاد خلال أيام، هذه المرة في الدوحة.

وهكذا انطلقت أصول وأجول في حديثي عن القمة وعن غيره من موضوعات الساعة.

بعد أن سجلت الحلقة الخامسة دخل عليَّ توفيق البيت، كما ذكرت، يهذي: «القائد، القائد».

تلقى مشري مكالمة من مكتب معمر القذافي تطلب منه إيقاف بث حلقة البرنامج، التي كان مقرراً إذاعتها في المساء، فاعتذر عن عدم تنفيذ الأمر بأنه يتلقى تعليماته من سيف الإسلام، واتصل بسيف الإسلام يبلغه بما حدث فأمره بإذاعة الحلقة، وأذيعت الحلقة بالفعل في المساء، وعندها تتالت الأحداث.

في ساعات قليلة صدر قرار بحبس مشري داخل مكتب القذافي ذاته في باب العزيزية، ثم قرار آخر بإيقاف بث القناة، تلاه قرار ثالث بضمها إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، وبعد منتصف الليل بقليل فوجئ العاملون في القناة بمعمر القذافي يدخل عليهم وبصحبته علي الكيلاني القذافي رئيس الهيئة، كانا وحدهما دون حراسة، وقف القذافي في ردهة مبنى القناة الأمامية وأخذ يجول فيها جيئة وذهاباً لدقائق معدودة، بعدها التفت إلى الكيلاني يسأله: «خلاص وضعت يدك على كل شيء؟»، ولما أجاب بالإيجاب غادر معمر.

أمم القذافي القناة هي وأخواتها، كان للخبر صدى كبير في صحف مصر المعارضة وفي الصحف العربية، وأرجع معظمها سبب تأميم القناة وإلغاء البرنامج إلى الحلقة الأخيرة التي تعرضت بالنقد لموقف مصر الرسمي من المقاومة الفلسطينية، وكذلك لتحويل عضو في حزب الله إلى النيابة بتهمة القيام بأنشطة وعمليات داخل الأراضي المصرية دون إخطار السلطات.

المصادر الصحافية كلها أجمعت على أن «مبارك» كان غاضباً غضباً شديداً، وأنه كلم القذافي، مساوماً حسب البعض ومهدداً حسب آخرين، مما أدى بالقذافي إلى تأميم القناة، الخلاصة أن «القذافي طوق أزمة مع مبارك بكبح الانتقادات الإعلامية»، كان هذا هو مانشيت جريدة «القدس العربي» يوم 28 إبريل 2009.

كنت قد زهدت الإقامة في الخارج، وكان الحنين يجذبني إلى الوطن لأؤدي رسالتي هناك، فحزمت حقائبي عائداً إلى القاهرة، واتصلت بالصديق القديم محمود جبريل في طرابلس، وهو خبير دولي بارز في التخطيط ، (بعد الثورة أصبح أول رئيس للمكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي). طلبت من جبريل أن يتدخل لدى من يعنيهم الأمر حتى تصرف مستحقاتي المتأخرة، فوعدني أن يطلب ذلك من رئيس الوزراء البغدادي المحمودي.

تأكدت من سبب إيقاف البرنامج وما لحق ذلك من تطورات. انزعج مبارك بداية لأن ليبيا أوت البرنامج بعد أن أوقف، وانزعج أكثر من مواصلتي لانتقاده بحدة، ويبدو أن انزعاجه بلغ حده عندما اتصل هاتفياً بالقذافي.

قال لي أحد الأصدقاء الليبيين الذين كانوا يحيطون بـ«القائد» إنه حضر المكالمة وإنها استغرقت 22 دقيقة، وإنها تناولت في البداية عدداً من المسائل الشائكة في العلاقات المصرية الليبية، ثم شكا مبارك من البرنامج، وعندما لم يعده معمر بإجراء محدد لوَّح مبارك في ابتزاز مكشوف بأنه قبل أيام منع إحدى الصحف القومية المصرية من فتح النار على القذافي شخصياً، وطلب منه صراحة أن يتخذ موقفاً لا يقل حسماً.

ولم تمضِ أيام، حتى طلبني الدكتور زكريا عزمي يبلغني بالرسالة نفسها والنص ذاته، حتى هيئ لي أنه إذا لم تكن مملاة من الرئيس السابق ذاته فلا بد أن أحداً ما أرسل نصها مكتوباً إلى الفقي وعزمي.

عندها قلت: «ولكن ذلك غير صحيح يا دكتور.. أنتم الذين أوقفتم البرنامج»، سألني زكريا عزمي إن كنت أملك دليلاً مادياً على ذلك، فأجبت بالإيجاب على الرغم من أنه لم يكن في حوزتي بالطبع مثل هذا الدليل، قال: «إذن نلتقي ونناقش الأمر»، أجبت بأن له أن يحدد الموعد والمكان، وكانت هذه آخر مرة أسمع فيها صوت زكريا عزمي.

كان اللقاء في سبها آخر مرة أرى فيها القذافي قبل أن يلقى مصيره البشع وهو مختبئ في أحد أنابيب الصرف في سرت.

 

مع منى الشاذلي

 

عندما أوشكت على السفر إلى لندن، استضافتني الإعلامية منى الشاذلي في برنامجها «العاشرة مساءً» الذي كان يتصدر برامج المساء في حلقة كاملة، وفيه فجَّرتُ المفاجأة التي لم يكن أحد قد علم بها من قبل، أن قطاري ستكون محطته المقبلة في «الليبية».

اندهشت منى بالطبع وأخذت تمطرني بسؤال تلو الآخر: لماذا الليبية؟ ويبدو أن إجاباتي لم تكن مقنعة تماماً حتى قلت لها في النهاية إن مثل هذا الوضع السيريالي الذي أنا فيه ليس له إلَّا حل سيريالي أيضاً، وعندما بدأ البرنامج في استقبال مكالمات المشاهدين الهاتفية غمرني أصحابها بحبهم، ونبهتني إحدى المتصلات إلى اختيار مسكن في لندن بلا شرفات (إشارة إلى حوادث مقتل عدد من الشخصيات المصرية البارزة من شرفات مساكنهم في لندن).

بعد ذلك سألت منى: «ولماذا لا تعود إلى بيتك، إلى مصر؟»، وكانت تعرف الإجابة بالطبع، قلت: «النهاردة أنا عقد الليبية في جيبي، وفي الغد سوف أغادر إلى لندن، ومع ذلك أقول بوضوح: لو قدم لي عرض من التلفزيون المصري الآن فسوف أقبله على الفور».

صمتت منى كما لم تصمت في برنامجها من قبل، وسالت من عيونها دمعة غالبتها، تحدثت عنها الصحف كثيراً فيما بعد.

 

 

قذاف الدم يطلب صعودي بجوارالقذافي فأبادره بالرفض

 

ما إن مرت أسابيع عدة حتى كلمني علي ماريا القائم بأعمال مكتب المتابعة الليبي في القاهرة، كنا في مطلع شهر أكتوبر 2009، لم أعد أندهش مما تأتي به مثل تلك المكالمات من مسؤولين ليبيين، دعاني، باسم القائد، لزيارة ليبيا «للمشاركة في الاحتفال الذي سيقام بمدينة سبها في الجماهيرية العظمى بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس حركة الوحدويين الأحرار».

قررت أن أقبل الدعوة على الرغم من كل شيء لسبب وحيد أن أحصل على حقوقي وأغلق ملف «الليبية»، كنت عازماً على أن أحدث «القائد» في الأمر عندما ألتقيه، وكان ذلك مقرراً في اليوم التالي الذي سنذهب فيه إلى بلدة «سبها».

أعد مسرح مفتوح كبير امتلأ بألوف من أهل «سبها»، تطل عليه منصة اصطففنا في ناحية منها ننتظر «القائد»، كان يبدو يومها أكثر وقاراً وأقل اندفاعاً، لم يطرق المائدة التي أمامه بقبضته، ولا رفع يديه وصوته مهللاً هاتفاً كعادته، ولم يقذف بورق بين يديه كما فعل في الأمم المتحدة أثناء كلمته.

جلس القذافي على المنصة يحيط به ضيوف الشرف القادمون من مناحي الأرض جميعاً، وجلست إلى جانبه ابنته عائشة، وأخذ منظمو الحفل يسوقون الضيوف إلى المنصة العريضة التي تعلو عن الأرض بضعة أمتار، وجاءني أحمد قذاف الدم يطلب مني الصعود إلى هناك لكنني اعتذرت، فقد كنت مشحوناً بالغضب من تعامل «الليبية» معي، وكنت أعرف أنني لو وقفت أمامه وجهاً لوجه فلا مناص من أن أتكلم بحدة، ولم أجد هذا لائقاً في مناسبة عامة كهذه المناسبة.

أشهد أن قذاف الدم كان كريماً ليلتها معي، تفهم رغبتي في الجلوس في الحديقة دون أن يلح، ثم مر بي أكثر من مرة همس لي في إحداها بحكاية الطباخين الذين أهداهم زعيم يوغوسلافيا «تيتو» إلى «القائد»، وأخبرني بأن السفرجية الذين يقدمون لنا العشاء إيطاليون، تبهج معمر كثيراً مثل هذه اللفتات.

سادة ليبيا في الماضي يخدمون ضيوفها اليوم، على الرغم من أنه عفا عن إيطاليا، بعد أن اعتذر رئيس وزرائها برلسكوني عن حقبة الاستعمار ودفع التعويض المناسب، ولو أنه أخذ في مقابل العفو ترضيات مجزية.

 

Email