المسلم الأول

خير البشر.. هكذا واجه جبروت القوة في المجتمع المكي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتصف هذا الكتاب بأنه من وضع مؤلفة لا تدين بعقيدة الإسلام، ومن ثم فقد جاءت آراؤها، إلى حد لا يستهان به، متميزة بقدر جلي من الموضوعية خاصة وأن المؤلفة- الصحافية الأميركية من أصل إنجليزي ليزلي هازلتون اختارت أن تتابع سيرة المسلم الأول، وهو الرسول محمد «عليه الصلاة والسلام»، من المنظور الإنساني، فضلاً عن قدرة المؤلفة فيما يمكن وصفه بأنه السرد القصصي، أو هو العرض الدرامي الذي بدأ في متابعة السيرة من مرحلة يُتم الطفولة إلى ذري النصر في تبليغ رسالة التوحيد، مروراً بدراما الهجرة من مكة إلى المدينة، ثم بالأدوار التي اضطلع بها "المسلم الأول"، وقد تشابكت على أديمها عناصر النبي المبشِّر والمنذِر مع عناصر الزعيم السياسي ورجل الدولة والقائد العسكري ثم المواطن الإنسان، زوجاً وأباً وصديقاً ونموذجاً لمنظومة أخلاقية وسلوكية بالغة التميز والارتقاء.

من هنا تأتي مثل هذه النوعية من الكتب بمنأى عن الجدل الأيديولوجي، وعن عوامل الانقسامات العقيدية، حيث يشكل المنهج الإنساني الذي اختارته المؤلفة عامل جذب لقارئ الإنجليزية العادي، الذي قد يدفعه فضول المعرفة إلى معايشة طروحات هذا الكتاب، بعيداً عن منطق التباغض العنصري أحياناً- الذي ساد للأسف منذ أحداث 11 سبتمبر سنة 2001.

يسطع في كبد السماوات هلال رمضان، هنالك يستعيد التاريخ ما يمكن أن نصفه بأنه "عناق الأرض والسماوات"، هو الوحي يقطر سلسلاً من سلسل، والقلم البديع رواء كما وصفه يوماً أمير الشعر الحديث أحمد شوقي.

من هنا كان اختيارنا للكتاب الذي يتناول السيرة العطرة للفرد الإنسان الذي اختارته السماء بشيراً بانبلاج فجر العقيدة السمحاء، ونذيراً لأهل الأرض كي يفلحوها ويعمروها ويستثمروا نعمة العقل وفضيلة العمل من أجل أن يعبروا بأقوامهم في سلام من حياة فانية إلى حياة خلود باقية بإذن خالق الحياة ومبدع الأكوان.

يحمل كتابنا عنواناً لا يخطئ القارئ دلالته وهو "المسلم الأول"، وكأنما استلهم عنوان كتابنا ما أفادت به الكلمات المضيئات من (سورة الأنعام) حين تقول: "قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أُمرت، وأنا أول المسلمين.

لهذا فقد نفضل أن نترجم عن الإنجليزية عنوان كتابنا على النحو التالي: أول المسلمين بعدها يأتي العنوان الفرعي موضِّحاً ومحدِّداً: قصة محمد (صلى الله عليه وسلم). بعدها أيضاً يرد اسم المؤلف بالأدق مؤلفة هذا الكتاب، وهي: ليزلي هازلتـون.

 ثم أخيراً، وليس آخر يرد وصف الناقدين وجمهرة المحللين الذي رافق نشر هذا الكتاب ليقول: إنه يعرض بالوصف والتحليل للحياة الاستثنائية التي عاشها الرجل الذي تأسس الإسلام على يديه، وكذلك للعالم الذي عاش فيه، ومن ثم في إعادة صياغته إلى عالم جديد.

كتابنا حديث الصدور، ونحسب أنه موجَّه بالأساس إلى القارئ الغربي- أو قارئ الإنجليزية في طول عالمنا وعرضه- ومن ثم تأتي أهميته، أولاً لاستخدامه اللغة الأكثر شيوعاً في النسق العالمي الراهن "لينغوا فرانكا" كما باتت توصف الإنجليزية في المجامع الثقافية الألسنية في العالم، وثانياً لأن الكتاب من تأليف باحثة لا تنتمي عقيدياً إلى دين الإسلام، بل هي باحثة تجمع بين جنسية أميركا وجنسية بريطانيا، وثالثاً لأن سنوات العقد الأخير- وهو العقد الاستهلالي بداهة من القرن الواحد والعشرين شهد، ولايزال يشهد، محاولات لطرح بل وترسيخ صورة مقولبة جامدة ونمطية (ستريوتايب) عن المسلمين، تكتنفها ظلال بالغة القتامة إلى حد السواد أحياناً، وهي ظلال توحي بالعنف والدماء والإرهاب، وخاصة بعد ما شهدته أميركا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

رجـل استثنائي

من هنا يحتفل ناقد مرموق هو المفكر الروائي هاري كونزو بالكتاب لأنه يسرد كما يقول- حكاية رجل غير عادي بكل المقاييس بل إن سيرته الاستثنائية بدأت منذ بواكير الطفولة التي ذاق فيها مرارة اليتم في ربوع مكة، ليتحول مع ممارسة التجارة لحساب زوجته السيدة "خديجة" إلى مواطن يحظى باحترام المجتمع المحيط، ولكن محمداً" كما يضيف الأستاذ هاري كونزو ( في مقال تحليلي منشور- نيويورك تايمز- ملحق الكتب الأسبوعي.

عدد 5/4/2013)- ينأى بنفسه وهو في شرخ الشباب عن اللهو والثرثرة في مجتمع مكة، فكان أن أمضي الأمسيات والليالي متأملاً معتكفاً في شعاب الجبال المطلة على مدينته الأم، إلى أن تلقَّى وحي السماء في نهاية المطاف حين طالع أسماعه صوت "جبريل" الذي بدأ يملي عليه مفتتح الآيات والسور من القرآن.

كانت تلك نقلة محورية في حياة محمد «صلى الله عليه وسلم» شكلت "تحولاً راديكاليا" كما يقول المحلل الأميركي.

وجاء الأمر كما توضح مؤلفة الكتاب على شكل مهمة اضطلع بها الرسول داعياً إلى صيغة جديدة للتوحيد مما أدى إلى تصدع هيكل القوة والسلطة في مجتمعه المكي بالدرجة الأولى، وهو ما قوبل أيضاً بردود أفعال بالغة العنف، مما دفع محمداً ونفراً من أتباعه إلى الهجرة إلى المدينة التي شهدت استجماع مقاليد السيطرة السياسية ومن ثم مباشرته العمليات العسكرية (الغزوات) في مواجهة الحكام والمتحكمين في مسقط رأسه الأصلي.

من هنا يضيف كتابنا - فعندما رحل محمد عن العالم كان الإسلام قد غطت دعوته ربوع شبه الجزيرة العربية فيما كانت دوائر المؤمنين به تتشكل وتنداح وتنتشر إلى آفاق أبعد وآماد أوسع.

مؤلفة الكتاب تحكي هذه القصة بقدر لا يخفي من التفاصيل التي أضفت طابعاً خاصاً على عملية السرد، وبأسلوب جعل هذه التفاصيل التي يكاد عمرها يشارف الألف وخمسمائة سنة دينامية ونابضة بالحياة بل إنها تحاول الربط بين ما شهدته تلك القرون البعيدة من تطورات وأحداث وبين ما نشهده في حياتنا المعاصرة من مشكلات وقضايا، ولدرجة أن المؤلفة ترى في بعض آيات القرآن الكريم ما يمكن أن يشكل تعليمات أو تحذيرات أو معارف مستنيرة تحضّ على الحفاظ على البيئة أو تنشر ما يمكن وصفه بأنه الوعي البيئي بظواهر مستجدة في زماننا من قبيل غوائل الجفاف أو إهدار الثروة المائية على سطح كوكبنا أو الوعي بعواقب تغير المناخ.

الخطة الأولى الحاسمة

تتوقف المؤلفة عند اللحظة الأولى لنزول الوحي، تسرد بأسلوب التأمل كيف جاءت استجابة الرسول الكريم إنسانية بالدرجة الأولى، كيف تصرف الرجل الاستثنائي باعتباره بشراً سوياً- تأخذه المفاجأة، وتروعه أعباء التكليف:"اقرأ باسم ربك الذي خلق".

فما كان منه إلا أن يهرع إلى البيت الطيب والزوجة الرؤوم، هاتفاً: دثروني، زمّلوني، وهنالك تعمل الزوجة جاهدة على أن يهدأ روعه وتسكن نفسه وتعلو همته وتنصقل إرادته كي يحمل رسالة مطلوب تبليغها وتبشيرها إلى العالمين.

عبر فصول هذا الكتاب يتابع القارئ، من خلال فيض متشابك من التفاصيل ما تصفه المؤلفة بأنه عملية التحول في شخصية "محمد" (صلى الله عليه وسلم) وفي سيرته واجتهاداته وعطائه من مبشر متواضع بعقيدة جديدة في مكة إلى زعيم سياسي في المدينة المنورة، بكل ما رافق هذه التحولات من أحداث، درامية بكل معني، ليس أقلها مثلاً حادث الهجرة تحت جنح الليل بل تحت طائلة خطر فادح وجسيم تعرّض له صاحب الدعوة، ومعه أول المؤمنين المصدقين بها من عقلاء مكة فيما جاءت "عملية الهجرة" وفق خطة مرسومة بدقة، مبسطة نعم لكنها كانت ناجعة بقدر ما كانت ناجحة بكل ما احتوته من عناصر تجمع بين الخداع والثبات ومضاء العزيمة وعمق الإيمان، وكلها جرت ترجمتها إلى حركة تمت تحت شعار يشع منه الاطمئنان إلى بلوغ الهدف المرسوم والمنشود وكان الشعار هو: لا تحزن، إن الله معنا.

الجوانب السيكولوجية ــ الإنسانية

وفيما نعترف بأن مؤلفة الكتاب عن رسول الإسلام، صلوات الله عليه، لا تدين بداهة بعقيدة الإسلام، إلا أننا نشهد لها باتباعها نهجاً أقرب إلى موضوعية التعامل مع عقيدة المسلمين بقدر لا يخفي من الاحترام والترفع عن التهجم أو الإساءة أو الخوض فيما لا ينبغي الخوض فيه.

حسبها أن اختارت بذكاء بحثي كما نقول أن تركز على حقيقة التحولات التي حدثت بعد نزول الوحي في حياة محمد ومن ثم في حياة من آمنوا برسالته من جموع المسلمين.

وحسبها أيضاً أن جاء تركيزها على الجوانب السيكولوجية في شخصية محمد الإنسان مواطناً وزوجاً وأباً وداعية وقائداً، وهي الجوانب التي شكلت شخصيته الفائقة التميز عن سائر الأنبياء والمرسلين، لأنها كانت الأقرب كما توضح المؤلفة أيضاً - إلى وجدان البشر بكل ما فيه من جوانب القوة والضعف في آن معاً.

تلك هي الجوانب التي سبق واسترعت اهتمام الكثيرين من المفكرين والأكاديميين وأغلبهم من غير المسلمين، وكان في مقدمتهم كمجرد أمثلة البروفيسور مكسيم رودنسون الفرنسي، أو الراهبة الإنجليزية كارين ارمسترونغ، وغيرهما كثير.

من هنا يذهب ممثل القسم الثقافي بالإذاعة القومية في "واشنطن" إلى أن هذا الكتاب أفلح حسب تصوره في أن يقدم رسول الإسلام على أنه شخصية معاصرة بدرجة يمكن أن يصدق عليها أفكار المفكر الألماني الشهير "هيغل" (1770-1831) بمعني أن كان محمد (صلى الله عليه وسلم) رجلاً يفهم بحق حركة التاريخ ودروسه المستفادة، حيث جمع في سيرته وجهاده وتعاليمه وسلوكياته بين الزعيم السياسي والقائد العسكري فضلاً عن كونه أولاً وقبل كل شيء كما تقول الإذاعة القومية الأميركية- رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى، ومن هنا أيضاً أفلحت مؤلفة هذا الكتاب في أن تحشد من التفاصيل التي تدارستها واقتبستها من حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) ما جعلها تقدم لقارئي الكتاب ترجمة دقيقة وحيوية للوصف القرآني البليغ من سورة الجمعة: "هو الذي بَعَث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة".

نعم ، كان رسولاً منهم. هذا هو المعنى الذي تمحورت عليه اهتمامات المؤلفة كي تفسح المجال إلى عروضها التفصيلية لسلوكيات نبي الإسلام بوصفه بشراً رسولاً، وهو ما أضفي على مقولات كتابنا رونقاً خاصاً ومتميزاً بالنسبة للقارئ الغربي بالذات حيث كان هذا هو السياق الأفضل كما تقول جريدة "سان فرانسسكو كرونيكل"، في عرضها النقدي لهذا الكتاب من حيث تصوير حياة "محمد" على أنها كانت سلسلة من النضالات التي جمعت بين الأنساق الروحية والأبعاد العملية مما أدي بداية إلى توحيد شبه الجزيرة العربية التي ما لبثت أن أصبحت كما هو معروف تاريخياً- بمثابة القاعدة التي انطلقت منها جموع المسلمين لتنشر تعاليم الدين الجديد في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن ذلك بالجهد القليل من جانب مؤلفة هذا الكتاب على نحو ما يوضح المفكر رضا أصلان الذي يوجه إلى المؤلفة ليزلي هازلتون ثناءً مستطاباً لأنها عمدت إلى تسليط المزيد من الأضواء الكاشفة على واحدة من أروع الشخصيات الإنسانية في سياق التاريخ.

المحور هو الإنسان

ولعل من إيجابيات مثل هذه النوعية من الدراسات أن أصحابها، ومنهم مؤلفة كتابنا ليزلي هازلتون، يتعاملون مع الموضوع، لا من زاوية الانقسام العقيدي أو حتي التميز الديني، ناهيك بالتعصب الأيديولوجي- الثيولوجي في مثل هذه الحالة، ولكنهم يتعاملون مع الموضوع على أنه جزء من التجارب الإنسانية وهو ما فعلته مؤلفة هذا الكتاب التي ظلت تتابع سيرة وأعمال واجتهادات "المسلم الأول" بوصفه إنساناً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وهو بالدرجة الأولى بشر، رسول كما وصفه القرآن الكريم.

تلك هي بالضبط السمة الجوهرية المميزة لهذا الكتاب التي تؤدي إلى تقريب طروحاته ــ كما يقول ناقدوه ــ من ذهنية القارئ غير الأكاديمي خاصة وأن كتابنا كما يضيف معظم هؤلاء المحللين يتعامل جاهداً مع "أسرع الأديان نمواً وانتشاراً على ظهر كوكب الأرض" ومن ثم يُحسب للمؤلفة الإنجليزية الأميركية أنها تساعد باجتهاداتها على بناء جسور وطيدة بين أطياف المجتمع الدولي المعاصر فضلاً عن التصدي بمنطق البحث العلمي إلى تيار البغضاء والتشويه الذي ظل الإسلام يتعرض له منذ أوائل حقبة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن وخاصة على يد قوى التعصب السياسي، بل والعِرقي في أميركا ممثلة بالطبع في فصيل "المحافظين الجدد" بالولايات المتحدة.

من هنا جاء تحليل مجلة "مور" الأميركية ليقول: إن ليزلي هازلتون أجادت فن الإبحار في خضم ساحة شاسعة الأرجاء، حافلة بالأمواج والتقلبات وخاصة في موضوع يتقاطع فيه عامل السياسة مع عوامل الدين، وإن كان تفوقها قد تجلى بالدرجة الأولى، لا في مضمار البحث والطرح الأكاديمي وحسب، ولكن في عالم السرد القصصي أو البناء الدرامي أو شبه الدرامي، ذلك لأنها تتناول سيرة إنسان متفرّد وضعه المفكرون المنصفون في صدارة عظماء الإنسانية وهو محمد بن عبد الله أول المسلمين «عليه الصلاة والسلام».

 

المؤلفة في سطور

رغم أنها مفكرة مقتدرة وكاتبة تشتغل بالبحث الأكاديمي المنظم والمنهجي، إلا أن مؤلفة هذا الكتاب ، ليزلي هازلتون، تفضّل ــ من باب التواضع فيما نتصور ــ أن تطلق على نفسها حسب عنوانها المطروح على شبكة التدوين الإلكترونية وصف "باحثة عَرَضية (أو باحثة بمحض المصادفة) في مجال أصول الأديان". على أنها تميزت من واقع الدراسات التي أعدتها والأعمال الفكرية التي أصدرتها بالتركيز ــ كما يقول نقادها ــ على عنصر الترابط أو التآزر، الذي يصل بين قضايا السياسة والدين وبين ظواهر التاريخ ومعطيات الواقع الراهن المُعاش.

المؤلفة في الأصل دارسة وممارسة لعلم النفس. وقد اشتغلت بمهنة الصحافة، حيث أمضت نحواً من 12 سنة مراسلة للإصدارات الأميركية الشهيرة مثل جريدة "نيويورك تايمز" ومجلة "تايم" ومجلة "ذي نيشن" في منطقة الشرق الأوسط.

أما كتاباتها السابقة المنشورة فقد تناولت مواضيع شتى، منها كتابها مثلاً عن سيرة "مريم العذراء" وكتابها عن السُنة والشيعة في تاريخ الإسلام وقد أصدرته بعنوان رئيسي هو "ما بعد النبي".

وقد ولدت المؤلفة في إنجلترا، وحصلت على الجنسية الأميركية، وأقامت بعدها في نيويورك، ثم تحولت للإقامة في مدينة سياتل عام 1992، فيما ذاع عنها قولها: " إن التناقض هو سُنة الحياة، ولنحذر من خطر التفكير ذي البعد الواحد".

عدد الصفحات: 320 صفحة

تأليف: ليزلي هازلتون عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة رفرهيد، نيويورك،

Email