مشروع التعليم الإلكتروني العربي وآفاقه الاستراتيجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت من بين الذين حظوا بشرف حضور إطلاق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مشروع التعليم الإلكتروني وتحدي الترجمة، وأستمعت مع الحاضرين لتلك الرؤية العميقة الدلالات في معالجة الواقع العلمي والمعرفي لأجيالنا الحالية والقادمة من خلال الكلمة التاريخية لصاحب السمو، رؤية تاريخية لا يطلقها إلّا من آمن بأن الرجال الكبار يصنعون التاريخ بإنجازات تشكل منعطفاً مهماً وتحمل تغييراً جذرياً في الواقع تتذكره الأجيال على مدى العصور.

وكنت وأنا أتابع حيثيات هذا المشروع المعرفي الكبير أشعر بالفخر وتملؤني سعادة من كان يحلم أن يكون لبلادنا العربية مشروعها الحضاري الذي يبني العقول وينشر الأمل باختراعات واكتشافات ونظريات تعيد للعرب مكانتهم العلمية التي فقدوها بين الأمم، حين كانت الحضارة العربية والإسلامية تعيش عصرها الذهبي خاصة ما بين القرن الثامن والرابع عشر الميلاديين، وكان بيت الحكمة في عصر المأمون يترجم المخطوطات ويزن الكتاب بالذهب.

وكم كان يؤلمني أن بعض المثقفين أو المتعلمين يكتبون في الكثير من المجلات والصحف وفي مواقع التواصل بشيء من الإحباط واليأس مما وصلت إليه البلاد العربية من ضعف ويقولون  بتنا نستورد كل شيء من الإبرة إلى السيارة .

 قد يكون الواقع مؤلماً لكننا لا نهادن ولا نتوقف عند الألم. فها هي دولة الإمارات العربية المتحدة قد صنعت واقعاً نهضوياً مشرقاً وأخذت تتبارى مع العالم المتقدم في الكثير من المجالات بفضل حكمة قادتها وتوحد إرادتهم وحبهم لشعبهم وحرصهم على إسعاده.

ولكي لا أخرج عن موضوعي الذي يشدني للكتابة الآن أقول، إن مشروع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو حلقة أخرى ضمن سلسلة من المشاريع الحضارية المعرفية والثقافية والعلمية بدأها بمشروع تحدي القراءة العربي تلاها مشروع صنّاع الأمل، وها هو مشروع التعليم الإلكتروني العربي وبوابته الداعمة له مشروع  تحدي الترجمة فتحٌ معرفي وحضاريُّ غير مسبوق ،فهو يعد أول وأكبر مشروع معرفي في مجال العلوم على مستوى الإمارات والوطن العربي ، وفيما يهدف إليه من رفع مستوى التحصيل العلمي في مجالي العلوم والرياضات ، فإنه سينتج سنوياً 5000 فديو تعليمي بما يقرب من 11 مليون كلمة أمدها 1000 ألف ساعة علمية في العلوم والرياضيات  .

قال سموه في معرض كلمته عن المشروع: " نسعى إلى توفير مادة علمية قوية في الرياضيات والعلوم لكل الطلاب العرب، والمشروع خطوة أولى في طريق طويل لتحسين واقع التعليم العربي، فنحن بحاجة إلى محتوى تعليمي عربي بمستويات عالية يكون عابراً للحدود العربية ومتاحاً لملايين الطلاب العرب".

سوف يتم تعريب المحتوى ويعاد إنتاجه وفق أرقى المعايير المعتمدة في المناهج الدراسية الدولية، ويكون متوفراً مجاناً لأكثر من 50 مليون طالب عربي. ولسوف تعمل العقول والكفاءات العربية لهذا المشروع لتحضير الموضوعات الهادفة والرشيدة والبانية لعقول الأبناء في العالم العربي، ولسوف تغطي الفيديوهات المساقات الدراسية من مرحلة رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر.
لقد ركّز صاحب السمو في هذا المشروع على نقاط جوهرية ومهمة كما يلي:

( خطوة أولى على طريق تحسين واقع التعليم العربي ) :

لم تبادر أي دولة عربية ولا حتى جامعة الدول العربية بمثل هذا المشروع التعليمي الاستراتيجي للنهوض بواقع التعليم العربي الذي تردى وكما أشار سموّه حين قال: "واقع التعليم في العالم العربي لا يرضي أحداً ولابد أن نكون إيجابيين ونبادر بإشعال أول شمعة ".

وهو خطوة أولى يعني ستتبعه خطوات على ذات المسار الطموح والمشرّف .

(سيكون الطريق الأسرع لردم الفجوة التعليمية في الوطن العربي):

نعم فسموه إذا قال فعل، ولم يعلن سموه عن المشروع إلّا وقد هيأ له كل الإمكانات البشرية واللوجستية كي يبدأ بأسرع ما يمكن، وحين يشير إلى ردم الفجوة التعليمية ذلك أن ابن الخليج وابن المغرب العربي سوف ينهلان من ذات المصدر العلمي الذي يوفره لهما المشروع مجاناً، سوف تتقارب امكانات الطلاب العرب علمياً ولسوف تنهض الأفكار والعقول باختراعات وابتكارات وإبداعات من كل العالم العربي.
(استئناف الحضارة):

إن النهوض الحضاري لأية أمة لا يكون إلا بنهضتها العلمية ، وهذه الحقيقة أثبتها الواقع الحالي ، والتردي الذي أصابنا كعرب سببه هجرنا للعلوم والتكنالوجيا والاختراعات ولذلك أسبابه والنتيجة الحتمية أننا لا نستعيد نهضتنا وحضارتنا دون أن نستعيد اهتمامنا بالعلم والتكنالوجيا ونردم الفجوة القائمة بيننا وبين الدول المتقدمة.

(الإيمان بقدراتالطلاب العرب):

قال سموه :" أنا مؤمن بالقدرات الاستثنائية للطلاب العرب متى توافرت لهم الموارد والإمكانات وأدوات التعليم الحديث والأمثلة بالمئات " .

وسموه يدرك أن الطالب العربي لا يقل كفاءةً ولا ذكاءً عن أي طالب في العالم فهو سليل حضارة ضاربة الجذور عميقاً ويوجد في الغرب المتقدم آلاف الطلاب الذين درسوا هناك وأصبحوا علماء يشار لهم بالبنان. ومن خلال مشروع تحدي القراءة العربي برز طلبة متفوقون قرأوا عشرات الكتب في زمن قياسي وبرعوا أمام لجان الفحص ونالوا الجوائز باقتدار، فهذا الإيمان تؤكده الشواهد ولم يأت من فراغ.

( العلم حصانة للأجيال من التطرف والانحراف أياً كان ) :

إن مشروع التعليم الإلكتروني العربي  ومشروع الترجمة المنبثق عنه وما سبقهما من مشاريع ، إضافةً إلى الفوائد العلمية الجمّة لها فهي تعتبر حصانة لملايين من الطلاب إذ تضعهم على سكّة العلم والمعرفة وتحصنهم من الإنزلاق في مهاوي التطرف والإرهاب، فالطالب الذي يملأ وقت فراغه بالعلم ويجد متعته وضالته في هذا الطريق الذي يبني فكره وعقله ويرسم له ملامح مستقبل مشرق ليكون عالماً أو مهندساً أو طبيباً، ويزرع الثقة بنفسه ويشده لهدفه الإنساني، هذا الطالب سيكون همه أن يستمر في تطوير معرفته ولا يجد فراغاً يقضيه بما لا ينفع .

 (ألف اختراع واختراع .. رحلة إلى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية) كتاب فخم وبالألوان تضمن اختراعات العلماء العرب على مدى ألف عام امتدت مساحتها من جنوب اسبانيا إلى الصين، علماء في الطب والميكانيك وعلم الخرائط والكيمياء والتعليم والعمارة وعلم الفلك والرياضيات، تم توزيع هذا الكتاب على الحاضرين كنتاج معرفي للمشروع ومواده العلمية جزء مما ستكون عليه الفديوات التي توزع على الطلاب.

وقد افتتح الكتاب بكلمة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تبعث الأمل في النفوس حيث قال: "اليوم نحن في أمس الحاجة لنستلهم أمجاد الماضي في سبيل بناء المستقبل ليعطينا دفعةً إيجابية تشحذ طاقاتنا وقدراتنا لمواكبة التغيرات المحيطة بنا، ولتحفز أجيالنا العربية الناشئة وتوقظ فيهم روحاً تستشرف بناء المستقبل وتلعب دوراً محورياً في صناعته لخدمة الإنسانية جمعاء".

(استشراف المستقبل)

إن من أهم سمات الفكر القيادي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هو استشرافه للمستقبل، ومن يتابع ما قاله وما كتبه وما أبدعه من مشاريع يدرك أن هذا القائد له نظر ثاقب إلى عشرات السنين إلى الأمام بل وإلى أبعد حدود المستقبل، فهو يدرك أن ما نزرعه اليوم نحصده غداً، فليكن زرعنا الخير لنا وللأجيال القادمة.

وقد حدا بحرصه على مستقبل العرب أن يساهم في بناء الأجيال بناء ً علمياً رشيداً ينهض بهم ويعيد لهم ما فقدوه من قوة وحضور علمي له دوره في التقدم الصناعي والزراعي والتجاري والتكنولوجي، هذه المشاريع هي الخطوات الأولى على الطريق والقادم بعون الله أرحب.

(البعد الإنساني .. والرغبة في عالم يسوده الأمن والسلام):

إن التطور العلمي والمعرفي يستجلب التطور للميادين الأخرى في الحياة ، وأول ما يجلبه هو النهوض باقتصاد البلد فالاختراعات العلمية تتحول إلى منتجات وأسواق عمل وينمو الاقتصاد وتزدهر الحياة الثقافية والاجتماعية ويشعر الإنسان بأن حاضره ومستقبله مضمون ، يعم الرخاء وترتفع درجة الأمان..

أما الجهل  فهو يجلب الفقر والتخلف وتتوحش النفوس ويبدأ الصراع ليس بين الدول فحسب بل حتى بين الجار وجاره وبين الأخ وأخيه .

لذلك فإن العلم والثقافة والمعرفة ضمانات للتطور الإنساني والرقي الحضاري الذي يعتبر بيئةً خصبةً للأمن والاستقرار والسلام .

فتلك الأبعاد قد لا تكون مباشرة ولكنها ستكون على المدى البعيد أكيدة وحاضرة .
 

Email