جبناء السياسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عُرف عن السياسة وسمات بعض السياسيين بأنهم يتصفون بالدبلوماسية، والتي تعني فن التفاوض والحوار لتحقيق مصلحة من يمثله هذا السياسي، ولكن لم يسبق لنا أن عَرّفنا السياسة بأنها نوع من أنواع الخوف، وأن بعض ممتهنيها في العالم هم جبناء بامتياز.

عندما كنا نشاهد بعض المحللين السياسيين عبر محطات التلفاز، نكتشف أن تصريحاتهم غير واضحة، فنبرر ذلك بأن هذه هي توجهات القناة التلفزيونية المستضيفة، ولهذا لم تسمح لهذا أو ذاك بالكلام بصراحة، وهذا يحدث في بعض الأحيان، لكن أن تكون قريباً من كوادر التجهيز، ومطلعاً على محاور النقاش، ومن ثم تشاهد حواراً صريحاً مغلفاً بعبارات مُجَمِلَةً للواقع، فهذا أمر جديد، نرى وجوب الخوض فيه.

في ظل هذا التخبط الذي يعيشه أبناء وطننا العربي، وصراعهم بين البقاء على قيد الحياة، والبحث عن الحقيقة، يأتي إلينا من يكذب ليجمل صورة المشهد، أو خائف لا يجرؤ على قول الحقيقة، وهنا نتساءل، ألا يستحق المواطن العربي أن يُصارح في كل ما يتعلق بأمور حياته، ألا يستحق أن يتقبل الواقع الذي يعيشه، بدلاً من رسم الأحلام الضالة.

وما إن يلتمس واقعه، حتى يكتشف أنه مخدوع في تصريحات بعض السياسيين ومحلليهم، وقد اشتهرت قنوات فضائية كنا نصفق لها في يوم من الأيام لاشتهارها بالمصارحة وإيراد الواقع، لنكتشف أنها في حقيقتها ليست صادقة، وإنما كانت تعمل لحساب أجندات معينة، ولكن بسياسة النفس الطويل.

من شدة خوف بعض السياسيين أمام الكاميرات، تجدهم مثاليين حتى في أسلوب كلامهم، وكأنهم شخصيات مسرحية تؤدي دورها أمام الجمهور، وأكثر ما أود الاستفسار عنه في هذا المشهد، من هو كاتب السيناريو الذي يوزع عليهم الأدوار؟!

ربما هم أنفسهم من يقومون بذلك لخوفهم من محاسبتهم أمام الأنظمة السياسية، وهل فعلاًبعض أنظمتنا السياسية العربية ما زالت تنتهج نفس الأسلوب في الرقابة الإعلامية، أم هو خوف قديم لم نستطع الخروج منه إلى الآن، أم أنها المصالح المدفونة والمكنونة في صدور البعض، والتي تقدر مصالحها مع فلان وعلان على حساب الحقيقة المجردة التي تمليها عليه ضميره؟!

الجبن السياسي العربي ليس وليدة اللحظة، فهو مرتبط في حياتنا كعرب منذ عشرات السنين، والسبب مرور أنظمة قمعية على بعض بلداننا العربية، وتفننها في محاسبة الصحافيين والكتاب والإعلاميين والمحللين السياسيين الحقيقيين، الذين لا يهابون مواجهة السلطة إن أخطأت، بل هدفهم تقديم تحليلٍ صحيح لمن يشاهدونهم أو يسمعونهم، ومرادهم مصارحة الشعب بالوضع الحالي كما هو، وليس كما تريد السلطة أن تصوره للناس.

الوطن العربي بحاجة لمن يصارحه بأمور حياته، فإن كان بعض السياسيين يخافون من الاعتراف بأخطاء الماضي، فلماذا يكذبون علينا بتطلعات المستقبل، ويصورون لنا مستقبلاً لا يتماشى أبداً مع معطيات الواقع، أو ما تفرضه الأحداث والمتغيرات الاقتصادية والسياسية على بلداننا، بل الأغرب أنهم يغلفون جبنهم وخوفهم ورعبهم، بأنهم لا يريدون إثارة البلبلة بين العامة.

المصارحة وعرض الحقائق لا يمكنها أن ُتهيّج الرأي العام حول أي قضية، بينما اكتشاف الحقائق بعد كتمانها، هو ما يثير البلبلة، فكم قضية تم تسريب حقائقها في العالم العربي، واكتشف العرب بعد ذلك أموراً صادمة كان السياسيون يدارونها خلف ظهورهم؟.

من الواضح أن المجاملات دخلت حياة العرب في جميع جوانبها، إلى أن وصلت للسياسة أيضاً، فأصبح العربي كمن يكذب الكذبة فيصدقها، ويقتنع بها، ومع مضي الوقت تصبح هي الحقيقة، ومن يقول إنها غير ذلك نعتبره هو المخطئ، وهذا ما يحصل عندما تتناقش في أمور سياسية مع أحد المحللين السياسيين، لتكتشف في نهاية النقاش أنه أصبح يعتبر كذبته هي الحقيقة، وما عداه زائف وباطل، وكل هذا لأننا نجامل المحطة التلفزيونية التي نظهر عليها، ونجامل المُحاور أثناء الحلقة، ونجامل السلطة التي لم تطلب منا مثل هذا التصرف، ولم ترده برسالة خاصة مكتوب عليها «سري للغاية»، إنما نحن اعتقدنا، ومن ثم أيقنا أن سلطاتنا لا تريد أن ندلي بآرائنا على الناس، وإن كانت حقائق صادمة، فمن حق الناس أن تفهم لا أن تُغيّب.

عملت في الإعلام ما يقارب عشرين سنة، ولم تصدف أن وصلتني رسالة من أي جهة تطالبني فيها بعدم الخوض في هذا الحديث أو ذاك، ورغم تهكم بعض المستضيفين في القنوات التلفزيونية، ووصفي بأني جريء في الطرح ولا أهاب قول الحقيقة، إلا أن هذا هو الواقع، وهذه هي الحقيقة.

المساحات الإعلامية واسعة النطاق، وتستوعب أي طرح يعبر عن رأي صاحبه يقصد به مصلحة الأمة، أو يعبر فيه عن واقع الحال بكل أدب واحترام، وغير محسوب على جهة معينة أو تنظيم يعمل في الخفاء، لكن خوف أصحاب الرأي هو ما جعل حدود الإعلام قصيرة المدى، ولا تتجاوز حتى الخطوط العادية في الطرح والمناقشة.

سياسة التجهيل والكبت الإعلامي التي مارستها بعض الدول، لم تعد على شعوبها ولا على السلطة بالنفع، بل العكس، جاءت بأنظمة مضادة لهذا القمع، بينما الأنظمة المتكشفة أمام الناس، هي من بنت جسوراً من الثقة بين السلطة والمواطن.

ومن يكشف هذه العلاقة ويجعلها أكثر وضوحاً سوى الإعلام وممثلي الإعلام، أصحاب الرأي والسياسيين، وإن عمد هؤلاء على إخفاء الحقيقية والتحدث بالمثاليات والشعارات الزائفة، فلن يعود علينا مثل هذا النهج إلا بهدم الروابط بين السلطة والشعب.

بعض السياسيين والإعلاميين العرب وأصحاب الرأي، جبناء في قول الحقيقة، إلا من رحم ربي، وهذه الجملة التي أوردها لكي أتنصل من المسؤولية القانونية فقط، لأني جبان مثل أكثرهم، ولا ألوم اليوم سوى هؤلاء الجبناء، فلا السلطة تمنعهم من قول الحقيقة، ولا في ذلك ما يضر المصلحة والوحدة الوطنية في الدول العربية.

 

Email