الأسطورة ولعنة الانهزام

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأسطورة تعريفها البسيط يكمن بالحدث أو الشخصية القديمة المحفوفة بالمبالغات، وقد تتناول مختلف النشاطات الاجتماعية من أدبية واجتماعية وحربية وصناعية وعلمية ودينية، ومما لا شك فيه أن للأسطورة تأثيراً في حياة المجتمع سواء سلباً أو إيجاباً، وإن كان التأثير السلبي في غالب الأمر له الغلبة، وذلك لفجوة المقارنة بينها وبين الواقع، والتي تبين ضآلة الأحداث ومنجزات الشخصيات الواقعية مقارنة بتلك الأسطورية.

إن المجتمع وموروثنا أدخلانا في معركة نحن بغنى عنها، معركة بين الحاضر والماضي، أين هم وأين نحن؟، ماذا صنعوا وماذا صنعنا؟، ماذا قدموا من التفاني لعبادة الله، وأين نحن من مخافة الله؟، لكن هذا انعكس سلباً على جميع المنجزات بما فيها الثقافية والعلمية، إلى أن وصل بنا الحال إلى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، والاعتراف بأن من سبقونا قد تغلبوا علينا ولا يمكن منافستهم.

الأسطورة الدينية؛ تلك الشخصية التي وهبت نفسها من أجل العبادة وبطريقة مبالغ فيها، مثلاً نسمع أن هناك من ختم القرآن في شهر رمضان 60 مرة أي بمعدل مرتين كل يوم، والمجتهد في زماننا إن جد وشد مآزره قد يختمه 10 مرات فقط، وأيضاً نسمع عمن صلى آلاف الركعات وقضى الليل بطوله في التهجد وقيام الليل، بخلاف التصدق بكامل المال أو بنصفه ووهب جميع الممتلكات مرضاة لله عز وجل، وعند مقارنة المنجزات القديمة بحاضرنا قد يُصاب الإنسان بالإحباط والاستصغار لعمله واجتهاده وعدم امكانية بلوغه لشيء مما سمع من تاريخنا العريق، ويكون أمام أمرين إما أن يترك حاله على ما هو عليه أو أن يستسلم ويترك الحبل على الغارب، ومثلما تكون ستكون، وإذا ما قارن عمله مع من سبق وزمان سلفه فسيرى أن المعادلة خاسرة لا محال، فتشعر النفس بالضعف لأن الإنسان يحتاج إلى التقدير والثناء لتنمية الدوافع الإيجابية.

في حين أننا نجد في سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ عَبْدِالله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقرأ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ) قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً... حَتَّى قَالَ (فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) رواه البخاري (4767) ومسلم (1159)، وبهذا البيان يتضح لنا أن رسولنا الكريم أعظم المتفانين في عبادته وأصدقهم يقرأ القرآن في شهر، وهو الذي حذر غيره من استصغار عمله فقال: [أما والله، إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني]، ومنطق العقل والغاية المرجوة من قراءة كتاب الله هو (التدبر)، وليس عدد الختمات، وكذلك جميع الفرائض والنوافل لا تقاس بكمها بل بصدقها ونقاء مقاصدها.

كثيراً ما نَصْدُم أبناءنا ونهز ثقتهم بأنفسهم عندما نقص عليهم قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه أصغر قائد لجيش المسلمين، وبطولات محمد الفاتح وغيره من القادة المسلمين الذين يتمتعون بقوة الجسد ومهارة القتال وهم في سن الصبا، وأن نذكر لهم حكايات أولئك الأطفال النابغين الحافظين لكتاب الله، فنقول لهم: (انظروا إلى أنفسكم وانظروا إليهم، أين أنتم من إنجازاتهم وبطولاتهم)، وحقاً أننا لا نستطيع أن ننكر دور هؤلاء الأبطال لكن لا أن نحبط غيرهم بالمقارنات الظالمة لهم، وبعدها فأي إنجازٍ عظيمٍ سيُعيد لأبنائنا ثقتهم بأنفسهم عندما نضعهم في هذه المقارنة غير المتكافئة، في ظل تحذير علماء النفس بمقارنة الأطفال بأشقائهم وجيرانهم وأقرانهم، فكيف نقارنهم بأبطال زمان مختلف منهجاً وثقافةً، وهذا ما يجعل من الأبطال والموهوبين من أبنائنا مهزوزين وضعفاء، بل ننمي بداخلهم تناقضاً وعجزاً عن التقدم والمسير لتحقيق الغايات والأهداف، وإن حاولوا التشبه بهؤلاء الأبطال سيكون سبيلهم إحدى الطريقين إما داعش أو القاعدة وما شابهها.

وإن تحدثنا عن الأسطورة العلمية والثقافية سنجد الأمثلة الكثيرة ممن كان لديهم قدرات خارقة في الفهم والاستيعاب، ونباغة وسرعة البديهة والحفظ والتفاني أيضاً في طلب العلم، وكثيراً ما نمجد من كان يحفظ أبيات القصيد بمجرد إلقائها، ومقارنة هذه الشخصيات بشخصياتنا المتوافر لها كل شيء والمتكاسلة عن طلب العلم، لكن في المقابل أبسط شخص في هذا الزمان يمتلك معلومات ومعارف تفوق الخيال، سواء في العلوم، أو الرياضيات، أو الفيزياء، أو التكنولوجيا، فإن كان ممن سبقونا تميزوا ببعض العلوم والآداب فأيضاً ممن هم في عصرنا قد تميزوا في الكثير من المجالات والتطورات، والأولى لنا أن نشجع أجيالنا وعلماءنا الحقيقيين لحثهم على الإصلاح المجتمعي والتربوي، بأن نُظهر محاسنهم، ونكرمهم في حياتهم قبل مماتهم، بدلاً من تمجيد إنجازاتهم بعد مماتهم كما جرت العادة، لنشجعهم على التمسك بقليل مما يملكون لكي ننمي بذرة التطوير بداخلهم، فالتشجيع يتطلب المديح وليس الذم والمقارنة فقط.

مصيبة كبرى أن يستصغر الإنسان إنجازاته سواء ما يقدمه لله، أو ما يجتهده في العلم والعلوم ما يكون فيه نفع لدينه ومجتمعه، وخلاصة القول: إننا في هذا الزمان نمتلك جميع مقومات الأساطير، لكن الفرق الوحيد هو عامل الزمن وعامل التشجيع، لذا علينا أن نقدر ما نقوم به من عبادات وإنجازات ثقافية وعلمية، فنحن نقدم الكثير منها لكن المقارنة بين الحاضر والماضي جعل كفة الغلبة تتأرجح للماضي؛ لأننا قدسنا التاريخ، وعظمنا شخصياته، فلم يعد باستطاعتنا التفوق عليهم لا بالجوانب الدينية ولا بالعقل والفهم، ولا حتى بالقوة الجسدية، مع أن مقومات الإنجاز اليوم تختلف، ولنحترم أنفسنا ولا نجعل التقدير حصراً على الممثلين سواء الفنانين منهم أو أشباههم الإعلاميين، ولننمي ثقة الشعوب والمجتمع بنجاحاته، لكي نصعد خطوة إلى الأمام بدلاً من الوقوف عند هذا الحد، وتصيبنا لعنة الانهزام.

Email