عمّال لا يشتغلون

ت + ت - الحجم الطبيعي

تلتزم شركات صيانة الطرق بوضع لوحة مكتوب عليها «عمّال يشتغلون» على جوانب الطرق التي يتم إصلاحها، وعندما نمر بسياراتنا عبر تلك الطرق نشاهد عمّالاً شمّروا عن سواعد الجد وانهمكوا في أعمال الصيانة.

يحصل ذلك طوال العام في الحر والقر (البرد)، وعندما يشعر هؤلاء العمّال بشيء من الظلم يطالبون بحقوقهم في تعديل الراتب أو ساعات العمل أو بيئة العمل، وإذا لم يحصلوا على مطالبهم فإنهم يضربون عن العمل فيتحولون إلى «عمّال لا يشتغلون».

وقد شهد العام المنصرم احتجاجات عمالية كبيرة في عدة مدن ودول أوروبية أسفرت عنها خسائر مالية وتعطيل مصالح العباد والبلاد. ففي ألمانيا أضرب عمّال شركة «دوتش بان» -وهي شركة نقل يستخدمها 5.5 ملايين شخص وتنقل 600 ألف طن بضائع كل يوم- عن العمل، وقد كلّف هذا الإضراب الاقتصاد الألماني 100 مليون يورو.

وفي بريطانيا أصيبت حركة قطار الأنفاق بالشلل بسبب إضراب العمال لأنهم استاؤوا من قرار هيئة قطارات الأنفاق بزيادة الخدمات الليلية طوال إجازة نهاية الأسبوع. كذلك أضرب سائقو سيارات الأجرة في طول فرنسا وعرضها عن العمل وجلسوا في بيوتهم لتتعطل مصالح الملايين من أهل البلاد والمقيمين فيها..

وكان الإضراب هذه المرة موجهاً ضد شركة «أوبر يوب» الأميركية لأنها قدمت خدمات لنقل الركاب بأسعار مخفضة. وفي كل هذه الإضرابات انتاب الناس اليأس وشيء من الغضب، أما الحكومات فحاولت إيجاد الحلول وإصلاح ذات البين كي يرجع العمال إلى أعمالهم، بل طالب عمدة مدينة لندن مراجعة القوانين الخاصة بالإضراب لوضع حد لمثل هذه التصرفات، كما وصفت الحكومة البريطانية إضراب عمال قطار الأنفاق بأنه «أمر مخز» لأنه تسبب في معاناة الملايين من البشر.

إن الكسل ظاهرة اجتماعية له تبعات وآثار سلبية وبالأخص في العمل المؤسسي. ذلك أن الكسول لا يؤمن بأن للعمل قيمة محورية في الحياة، فهو يفصل بين العمل والأجر في كينونة نفسه، فالمؤسسة هي المسؤولة عن دفع راتبه ومنح مزاياه والاهتمام بصحته وعافيته دون أن يكون له دور في الإنتاجية.

والكسل سلوك نفسي تأصل لدى الكسلان الخمول واللامبالاة واليأس والقنوط واختلاق الشكوى الواهية. وهكذا يتحول كُسالى الموظفين إلى «عمال لا يشتغلون». وعندما درس علماء «السلوك المؤسسي» أسباب الكسل لدى الموظفين استنتجوا أن من أهمها ضعف الكفاءة وغياب الاحترافية والترهل الوظيفي الشائع لدى المؤسسات الكبيرة، والاتكالية والمحسوبية واستغلال طيبة المديرين والمسؤولين وغياب الاستشارات المهنية الصحيحة لهؤلاء الكُسالى، إضافة إلى غياب اللوائح والسياسات الرادعة لمثل هذا المسلك المهني غير المقبول.

وفي جانب آخر يسود هاجس وتخوف لدى علماء الإدارة وبالأخص الخبراء المختصون بتنمية القوى العاملة من أن التطور التكنولوجي السريع والثروة المعلوماتية القادمة سيزيدان من معدل البطالة لدى البشر...

وسيفقد الكثير من العمال وظائفهم ليصبحوا «عمالاً لا يشتغلون» بعد التحول الآلي لعمليات التشغيل في المصانع والمكاتب، وبعد أن تحل التكنولوجيا مكان الأيدي العاملة، حيث ستتوفر لدى متخذ القرار معلومات كافية لإدارة مؤسسته بواسطة هاتفه النقال أو الحاسوب اللوحي الذي يحمله معه في حله وترحاله.

أجل، إن التقدم التقني والتطور التكنولوجي سيخلقان واقعاً جديداً يتطلب فكراً إدارياً خلاقاً وممارسات تشغيل مبدعة تحل محل النظم والإدارات التقليدية السائدة. ذلك أن اقتصاد الغد المبني على المعرفة لن تشغله الروبوتات والمنصات الرقمية، بل ستديره سواعد البشر الذين صنعوا هذه الآلات واخترعوا هذه التقنيات.

ففي الثورة الصناعية الأولى تخوّف الناس من البطالة وآثارها الاجتماعية ظناً منهم أن الآلة الطابعة والمحركات البخارية ستفقد العمال وظائفهم، لكن سرعان ما زال ذلك التخوف بعد أن أعلنت المؤسسات عن حاجتها لمشغلين لتلك الآلات ومصممي أجهزة وباحثين يطورون معدات أكثر فعالية، إضافة الى فنيين وتقنيين لصيانة الآلات، بل ومدربين يدربون العمال المهرة على استخدام تلك الأجهزة الجديدة..

وهكذا خلقت الثورة الصناعية مئات الوظائف لم تكن بالحسبان ولم يتوقعها الكثير من خبراء الموارد البشرية إبان الثورة الصناعية، واليوم فإن التقدم التقني والتطور المعلوماتي شجع الكثير من الدول ومعها المستثمرين الأذكياء في الولوج إلى عصر جديد من المشاريع العملاقة، فبلدان مجموعة العشرين تبنت مبادرات تدعم خلالها مؤسسات القطاع الخاص إلى الاستثمار في مشاريع تنموية تبلغ التريليونات من الدولارات. فبحسب التقارير الدولية فإن مشاريع تحديث البنية التحتية وحدها -..

والتي تشمل الطرق وشبكات المياه والكهرباء- بلغ عام 2014 بين 6 - 9 تريليونات دولار، أي ما يعادل 8%من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد اعتبرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تلك المشاريع هي أكبر طفرة استثمارية في تاريخ البشرية. يكفي أن نعلم أنها خلقت أكثر من مليون وظيفة العام المنصرم في الولايات المتحدة وحدها.

إذاً لا مكان «للتكنوفوبيا» في عالم المال والأعمال، بل إن التراكمات المتجددة من المهارات الفنية والكفاءات القيادية ذات الأفكار المبدعة الخلاقة تكون هي المحرك الأساسي لاقتصاد المستقبل، فعليه فإن الحكمة تقتضي تصويب السياسات والاستراتيجيات لتطوير المهارات العمالية وتنمية الموارد البشرية والقدرات القيادية لدى موظفي الحاضر بعيداً عن الكسل والجمود أو الاحتجاجات والإضرابات التي لا طائل منها، لكيلا يتحولوا إلى «عمال لا يشتغلون» في المستقبل.. فهل من مدكر؟!!

 

Email