«مضايا» غورنيكا سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدت اللقطة، وقرأت السطور التوضيحية تحت الصورة.. لكنني أشحت ببصري، لم أفتح الصوت، فلم أسمع شيئاً، لكن نظرات الطفل المنكسرة كانت أكثر من كافية.

دفعتني بتلقائية إلى التاريخ لتتداعى إلى ذهني مآسي مدن وبلدات أخرى عبر التاريخ: «غورنيكا، ستالينغراد، تل الزعتر، سربنيتشا».. أي من هذه المآسي تليق بهذه القرية السورية الصغيرة: «مضايا»؟

لربما شيء من كل مآسي هذه المدن، ولربما تكون هذه القرية متفردة في مآساتها، لكن في النهاية، ستضاف «مضايا» إلى سجل تاريخي بقائمة المدن الشاهدة على انعدام السوية البشرية في الحروب، وترديها إلى أبشع الغرائز البشرية.

في اللقطة، حجارة متناثرة، علامة على دمار حاق بالبلدة، وطفل جائع أشعث الشعر، يطلب باستحياء من رجل يقوم بتصويره، طعاماً لإخوانه الجوعى منذ ثلاثة أيام.

يتحسر الرجل، ويتعوذ بالله، ويبلغ الطفل أنه جائع مثله، تنكسر عين الطفل المنكسرة أصلاً. لقطة جاءت وسط لقطات لأطفال ضمرت أجسادهم، وبانت عظامهم من الجوع، تذكرنا بأخرى في الذاكرة.

«مضايا» تشبه «غورنيكا» في الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينيات، التي كانت أول مدينة تتعرض لقصف الطائرات الألمانية الحليفة لقوات الجنرال فرانكو، وبالتأكيد، تشبه في مجاعتها ستالينغراد الروسية، التي حاصرتها الجيوش الألمانية ستة شهور..

وتتقاسم تفاصيل مجاعتها أيضاً مع مخيم «تل الزعتر» شرقي بيروت أيضاً، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، قبل سقوطه في أغسطس 1976، فالتجويع في حصار تل الزعتر، اتضح الغرض منه، مع النتيجة النهائية: مذبحة وإزالة المخيم بالجرافات.

أما العظام الناتئة لأطفال مضايا، فتعيد تذكيرنا بالعظام نفسها للبوسنيين في المعتقلات الصربية، إبان حرب البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.

أما التساؤل عما يدفع حكومة لفرض حصار وتجويع مواطنيها في بلدة صغيرة على هذا النحو، فجوابه ليس العقاب وحده، ولا هزيمة بضعة مئات من المسلحين المتحصنين فيها، بل هي صدفة الجغرافيا، التي جعلت هذه البلدة الصغيرة وبلدات أخرى، مغرية لخطة تطهير مذهبي، تماماً مثلما تعرض له مسلمو البوسنة في حرب استهدفت وجودهم بالأساس، ومن قبلهم سكان مخيم تل الزعتر.

بلدة مضايا، مثلها مثل القرى والبلدات المحاذية للحدود مع لبنان، باتت هدفاً لخطة تستهدف تغييراً ديموغرافياً، يستوجب تطهيرها من أهلها، لهذا، فإن التجويع يدفع بالحرب إلى ذروتها، لأنها تظهر الصراع في شكله الأوضح، بوصوله إلى هذا الحد من التوحش، فالتوحش يوازي الهدف المطلوب.

المجاعة ليست القاسم المشترك بين «مضايا» وتلك المدن، بل حجم التردي البالغ في السوية البشرية، الذي يبدو وكأنه بات أمراً معتاداً. يزيد في الصدمة هنا، إدراكنا المسبق أننا أمام نزاع تنتفي فيه الأخلاق تماماً، حتى في أقل الحدود الدنيا، وأن مأساة مضايا ليست سوى عنوان لمآسٍ أخرى، لم تكشف في خضم هذا النزاع.

لا تبدو موافقة الحكومة السورية على دخول قوافل الإغاثة إلى مضايا والبلدات الأخرى، باعثة على أي تفاؤل، وعندما يعرف المرء أن هذه الموافقة، تمت بضغوط من روسيا، فإن هذا يعيد التساؤل حول خبايا هذا الإصرار الذي أوصل أهل مضايا إلى المجاعة، فهذا التفصيل، يبلغنا أن الحكومة السورية، وافقت مكرهة على دخول الإغاثة لمواطنيها المدنيين في هذه البلدة.

أما السجال الذي دار بين مؤيدي النظام ومنتقديه، فهو يكشف أيضاً، عن أن الخراب والتردي الأخلاقي، قد بلغ حداً غير متصور، فأحد النواب السوريين في مجلس الشعب، يذهب إلى حد المطالبة بحرق البلدة بمن فيها، لحل مشكلة المجاعة.

التفاصيل لا تكف عن تعميق الصدمة حيال هذه المأساة: تتوالى ردات الفعل المليئة بالتبرير، عبر اتهام مسلحي التنظيمات المتحصنين في البلدة، بالمتاجرة في إمدادات الطعام التي تدخل البلدة، أعداء النظام ومنتقدوه، يتهمون قوات الحكومة والمليشيات المشاركة في الحصار، بالمتاجرة أيضاً بالمواد الغذائية، وبيعها بأسعار خيالية. تقارير من البلدة تتحدث عن شبان خرجوا بحثاً عن الطعام لأهاليهم، فتعرض بعضهم للقنص، وبعضهم لم يعد أبداً.

في كل هذا، يغيب تفصيل صغير: إن كانت البلدة تعاني الجوع، وكان المسلحون المتحصنون فيها يتاجرون بالطعام، لماذا لم يرفع مؤيدو النظام أصواتهم للكشف عن ذلك؟

، الحقيقة الصادمة من جديد، هي أن أحداً لم يهتم بمجاعة أهل مضايا، ولا البلدات الأخرى، إلا تحت وطأة صدمة الصورة، وأبشع ما في الأمر، أن العالم والضمائر تحتاج لصدمة تفوق الاحتمال، لكي تعلي صوتها بالاحتجاج وتتحرك، تماماً، مثلما جرى مع صورة الطفل الغريق إيلان قبل شهور. والمؤسف أكثر، أنهم يعلون أصواتهم فحسب، ولبرهة.

لم يعرف أحد بمجاعة مضايا، إلا عندما صدمتنا صور أطفال البلدة بعظامهم الناتئة، وذلك الطفل الذي يستجدي الطعام باستحياء من جائع آخر يصوره بالكاميرا.

كانت مضايا واحدة من بلدات الشريط الحدودي مع لبنان، التي استضافت النازحين اللبنانيين في حرب تموز 2006، واليوم، يشعر كثير من اللبنانيين بالعار، لأن حزب الله يشارك في حصار البلدة، ويصدر بياناً مليئاً باللعثمة، يبرر فيه مشاركته بحصار البلدة التي استضافت مواطنيه في محنتهم قبل سنوات. بيان لم يكن مقنعاً بتبريراته، لسبب وحيد:

النضال والمقاومة ضد أي محتل، هي بالأساس تفوق أخلاقي عليه، لا تستقيم أبداً مع مجاراته في أي مكان وتحت أي ظرف. لكنها السياسة وتقلباتها، والمصالح، والطبيعة البشرية التي تستنسخ أخطاء التاريخ بإصرار عز نظيره.

 

Email