الخطأ.. عندما يكون مدمراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كلمته أمام الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن القوى الغربية وحلف الأطلنطي ارتكبا خطأ كبيراً في ليبيا أدى إلى الفوضى الراهنة نتيجة فراغ السلطة الكبير الذي نجم عن سقوط نظام القذافي دون وجود البديل القوي الجاهز للحكم، هذا الفراغ فتح الباب أما الجماعات المسلحة وأخرى إرهابية ومتناحرة للدخول في صراعات دامية على السلطة.

هذا الخطأ الذي تحدث فيه أوباما- بعد فوات الأوان بالتأكيد- ليس من نوعية الأخطاء البسيطة المرتبطة بحسن النية ولا من نوعية الأخطاء الفردية التي يترتب عليها نتائج محصورة في الزمان والمكان، ولا حتى من نوعية الأخطاء التي تسفر عن خسائر بشرية جسيمة نتيجة خطأ في الحسابات أو التصرفات أوحتى لتحقيق أهداف «تكتيكية» في إطار صراع أكبر وأعمق.

ومن نوعية هذه الأخطاء الأخيرة على سبيل المثال لا الحصر القصف الأميركي لمستشفى أطباء بلا حدود قبل أيام في مدينة قندوز الأفغانية، والقصف الأميركي لملجأ العامرية العراقي خلال حرب الخليج الثانية مما أسفر عن مقتل مئات المدنيين العراقيين من الأطفال والنساء والعجائز والمسنين، وإسقاط الصواريخ الأميركية لطائرة الركاب المدنية الإيرانية في مياه الخليج في يوليو 1988 ومصرع جميع ركابها الثلاثمئة على وجه التقريب..

هذه مجرد نماذج للأخطاء القاتلة – والمصادفة وحدها جعلتها كلها أخطاء أميركية – والتي يمكن القول إنها محدودة في خسائرها من حيث الزمان والمكان ومن الممكن تجاوز آثارها سريعاً بإزالة آثار الحادث المادية ودفن الخسائر البشرية، بمعنى آخر هي أخطاء قاتلة ومؤلمة أشد الألم ولكنها ليست شديدة التدمير كالخطأ الذي اعترف به أوباما أمام الجمعية العامة فيما يتعلق بالأزمة الليبية.

فالأخطاء التي ينجم عنها تدمير الدول وخراب الأوطان وتشتيت البشر وتفتيت الشعوب لا يمكن بأي شكل من الأشكال إدراجها ضمن الأخطاء البسيطة أو محدودة التأثير، ولكنها أخطاء مدمرة تبقى تبعاتها وآثارها الكارثية جاثمة على صدور العالم وأصحابها المنكوبين بها على وجه الخصوص طوال سنوات الحاضر ولحقب وأزمان طويلة في المستقبل.

وأظن أننا لسنا بحاجة إلى الغوص في الماضي البعيد للتفتيش عن الأخطاء الكارثية المدمرة التي أطاحت بأوطان ودول عديدة، فوقائع الماضي القريب جداً، وكذلك الحاضر في أمتنا العربية تقدم أفضل النماذج الكارثية لتلك الأخطاء، ولعل في بدايتها ما جاء على لسان الرئيس الأميركي بخصوص ليبيا.

المؤسف أن تلك القوى لا تبدي أي استعداد أوسياسات جادة لإصلاح ما أفسدت ودمرت وكأن نظرية «الفوضى الخلاقة» التي انطلقت من واشنطن تحولت إلى «فوضى هدامة» مهما كلف الأمر من دمار ومآسٍ بشرية. ولا شك في أن ليبيا ستظل تعاني لعشرات السنوات المقبلة قبل أن تعرف للاستقرار الحقيقي طعماً ومعنى.

ولا مبالغة في ذلك، يكفي أن نتأمل ما حدث ويحدث في العراق، أيضاً نتيجة خطأ تدميري وكارثي ارتكبته الولايات المتحدة ومازالت المنطقة تعاني من تبعاته وكذلك العالم بدرجة أو بأخرى، فالغزو الأميركي للعراق عام 2003 الذي يعد بحق جريمة العصر يعد من نوعية الأخطاء غير المبررة والتي يصعب قبولها خاصة في ضوء الكوارث الكبرى التي نجمت عنه.

فليس خافياً حجم الأكاذيب التي ساقتها واشنطن وقوى غربية أخرى كمبررات «مشروعة» لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، هذه الأكاذيب لم يكشف عنها النقاب اليوم ولكنها كانت مفضوحة حتى وقت التحضير للغزو وتم إعلانها على أعلى المستويات من جانب محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكبير مفتشي الأمم المتحدة هانز بليكس آنذاك.

فقد تأكد وقتها أن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل كما تزعم واشنطن، بل كان نظام صدام في ذلك الوقت أكثر التزاماً وتنفيذاً لكل مطالب الأمم المتحدة، وثبت في فصيحة علنية في أروقة الأمم المتحدة تزوير رسمي أميركي في خطاب «مفبرك» عن حصول بغداد على يورانيوم من النيجر، وبينما قال وزير الخارجية الأميركي كولين باول أمام مجلس الأمن أن صدام يخفي أسلحة الدمار داخل شاحنات متنقلة تجوب الشوارع العراقية، كذبه هانز بليكس تماماً مؤكداً أن الشاحنات المزعومة ليست إلا «برادات» لحوم أوخضراوات.

وبعد الغزو وخراب العراق وجواره أيضاً سمعنا أصواتاً أميركية تتحدث عن أخطاء كبرى في غزو العراق، ولكن مرة أخرى هذا ليس خطأ محدوداً ولكنه خطأ تدميري لأمة بأكملها، والمؤسف أن الاعتراف بالخطأ عادة ما يأتي متأخراً وبعد وقوع «الرأس في الفأس» كما فعل أوباما بالنسبة لليبيا ومستشفى أطباء بلا حدود، إنها أخطاء مدمرة وقاتلة تستوجب المحاسبة والمحاكمة بتهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ولكن من يجرؤ على محاسبة الإمبراطورية الأميركية صاحبة أكبر سجل أسود من الأخطاء المدمرة للأمم والشعوب؟!

Email