الاستراتيجية المفقودة في الأمم المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قضايا نوعية كثيرة، مثل التنمية المستدامة والتغيرات المناخية والبيئية، وأخرى إنسانية كاللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، كانت حاضرة بقوة، واستحوذت على كثير من الجلسات والمناقشات الجارية في الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن القضايا السياسية والأمنية كانت الأشد سخونة، والأكثر استحواذاً على اهتمام الزعماء والقادة، بحكم أنها بالفعل تمثل تهديداً صريحاً للسلم والأمن الدوليين.

ولكن من الواضح أن الهوى السياسي قد تحكم في توجهات ونفوس الكثيرين عند بحثهم وطرحهم للقضايا الملحة، ما أدى إلى حالة خطيرة من الانقسام الدولي في سبيل تحقيق الأهداف الذاتية، وقد أفضى ذلك إلى غياب استراتيجية شاملة تربط كل القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية، وكذلك البيئية والإنسانية، ببعضها البعض.

غياب هذه الرؤية الاستراتيجية عن أعمال الجمعية العامة، يعني إطالة أمد النزاعات والصراعات والحروب، وكذلك افتقاد السبل السلمية لتسويتها، فمن المؤكد أن هناك علاقات وثيقة بين حتمية إيجاد حلول وتسويات للصراعات القائمة في العراق وسوريا وليبيا واليمن والأراضي الفلسطينية المحتلة، باعتبارها مفاتيح أساسية للتوصل إلى حلول متكاملة لمشاكل الإرهاب والتطرف، ولأزمات المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين والنازحين.

فجميعها بالقطع أزمات مترتبة على بعضها البعض، وبدون ذلك، يصعب جداً الحديث عن تنمية مستدامة أو تنمية اجتماعية وإصلاحات بيئية، أو حالة سلام وأمن حقيقية تسود العالم، ومن الواضح أن الرؤى الأحادية هي التي سيطرت على أعمال الجمعية العامة، فطغى عليها منهج الجزر المنعزلة، التي لم تجتهد لربط القضايا ببعضها البعض، أو البحث عن سلة الحلول المتكاملة.

ولا شك في أن السبب الأساسي لذلك، هو الأهواء النفعية للدول التي غلبت مصالحها الذاتية على ضرورات السلم والأمن. ورغم فشل هذا المنهج، وما يرتبط به من نتائج خطيرة وانقسامات حادة، تجلت، على سبيل المثال، في التعامل مع الأزمة السورية، التي أصبحت بلا شك، القضية المحورية في أعمال الأمم المتحدة، إلا أن مثل هذه التوجهات والانقسامات ليست جديدة على المنظمة الدولية.

فقد زرعت القوى العالمية الكبرى، وخاصة الدول الغربية، بذور نزع العدالة منها، ووجهت أعمالها بما يحفظ مصالحها قبل أي شيء آخر، منذ قيامها قبل سبعين عاماً، وليس أدل على ذلك، من أن هذه الجمعية العمومية الضخمة، لا تستطيع أن تفرض واقعاً سياسياً عادلاً في خدمة السلم والأمن الدوليين.

كل ما يصدر عنها من قرارات، هي مجرد توصيات غير ملزمة، وقد يستحيل تنفيذها، حتى ولو كانت عادلة، وفي الغالب، لا تجد طريقها صوب التنفيذ، إلا إذا كانت تصب في خانة المصالح الغربية، حتى وإن نجحت الدول التي تشعر بالغبن في العالم، وتثق في الوقت ذاته في عدالة قضيتها، في استصدار قرارات تحمي مصالحها وتحقق مطالبها.

إلا أن هذه القرارات، تبقى مجرد حبر على ورق، حبيسة الأدراج بدون تنفيذ. والصراع العربي – الإسرائيلي عامة، والقضية الفلسطينية خاصة، خير دليل على ذلك، فمنذ تفجر هذا الصراع، صدرت عن الأمم المتحدة، وجمعيتها العامة على وجه الخصوص، عشرات القرارات التي تصون الحقوق الفلسطينية، وتطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وعودة اللاجئين، فضلاً عن وجود لجنة دائمة «لحماية الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف»، ورغم ذلك، لا تزال الأراضي العربية محتلة، والمذابح والمجازر ضد الفلسطينيين مستمرة، بغطاء دولي توفره القوى الغربية الكبرى.

بينما كان القرار الوحيد الملزم من جانب الجمعية العامة، وحمل غبناً وظلماً شديدين لأصحاب الحقوق المشروعة، هو قرار تقسيم فلسطين رقم 181، الصادر في نوفمبر 1947، وتأسس عليه قرار مجلس الأمن الدولي في مايو 1948، بالموافقة على قيام «دولة إسرائيل»، وبذلك مهدت الجمعية العامة، في واحدة من المرات القليلة الفاعلة لأكبر مأساة بشرية مستمرة منذ قرن من الزمان تقريباً، أي منذ صدور وعد بلفور عام 1917، إلا أن قرار الجمعية العامة، أكسبه شرعية دولية بعد هذا التاريخ، وحدث ذلك بالقطع، لأن هذا التصرف كان يصب بشكل مباشر في صالح الصهيونية العالمية، والمصالح الأميركية – الغربية العليا.

وعلى المنوال ذاته، سار الكثير من قرارات الجمعية العامة، في ما يتعلق بحماية المصالح الإسرائيلية واجبة النفاذ، في حين بات واضحاً، أن القرارات المنصفة للفلسطينيين والعرب عموماً، تتعثر في أروقة الأمم المتحدة، مهما كان عدد الدول الموافقة عليها، فكثيراً ما كانت الجمعية العامة هي ملاذ الفارين من ظلم مجلس الأمن الدولي، إلا أن ذلك لم يحل دون وقوعهم في براثن غياب العدالة الدولية في الجمعية العامة.

ويبدو أن المجال الأساسي لنجاح عمل الجمعية العامة، وبشكل نسبي أيضاً، يتمثل في القضايا الدولية العابرة للحدود، التي تحمي السلم الدولي والأمن الإنساني بشكل جماعي، وأيضاً تحافظ على بقاء البشرية وكوكب الأرض، وهي في مجموعها أيضاً قضايا تتسم بالشمول، ويمكن وصفها بالقضايا الفنية، وتحتاج إلى إرادة جماعية دولية، تصون مصالح الأغنياء والفقراء معاً، والدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، قضايا المناخ والبيئة والانبعاثات الضارة، والغذاء وحقوق الإنسان، والأهداف الدولية للألفية، وصولاً إلى معاهدات نزع السلاح وحظر الانتشار النووي، والحد من إجراء التجارب النووية.

وحتى تلك الأخيرة، ورغم أهميتها للبشرية، إلا أنها لا تحمل صفة الإلزام إلا للدول الموقعة عليها. وهنا، تظهر مجدداً علة الجمعية العامة الأساسية، وهي عدم وجود صفة الإلزام في تنفيذ قراراتها.

Email