مأساة اللاجئين ومبدأ الغبن التاريخي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من منطلق سياسي وإنساني بحت يعد مبدأ «الغبن التاريخي» المعترف به عالميا فرصة للدول الكبرى كي تصلح ما أفسدت في الماضي عندما استعمرت ونهبت دول العالم الثالث لمئات السنين، وليس خافيا أن الدول الغنية اعتمدت وتعتمد على استنزاف ثروات الدول الفقيرة في أفريقيا ودول الجنوب عموما وتعتبرها سوقا لتصريف منتجاتها، وتقدم لها بعض المساعدات المالية البسيطة والمساعدات الإنسانية المحدودة.

ولا تسعى الدول الغنية إلى مساعدة الدول الإفريقية وغيرها لتحقيق التنمية الشاملة وتحسين مستوى معيشة مواطنيها حتى لا يضطروا إلى الهجرة سواء المشروعة أو غير المشروعة وتعريض حياتهم للخطر، فضلاً عن أن الدول الكبرى كثيرا ما ساعدت على انتشار الفساد وغياب الديمقراطية والحكومات الرشيدة وانتشار الصراعات والحروب الأهلية في دول العالم الثالث ما أدى إلى انتشار الفقر والبطالة والإحباط الذي يدفع الشباب إلى الهجرة بكافة السبل للهروب من هذه الأوضاع البائسة.

أضف إلى ذلك أن القوى الكبرى مسؤولة مسؤولية مباشرة عن صناعة تلك الظاهرة وتفاقمها بمخططاتها التي أدت إلى تفجير الإضرابات والفوضى والخراب في دول الشرق الأوسط وساهمت بتدخلاتها وسياساتها المغرضة ونظرياتها حول الفوضى الخلاقة في تمدد الإرهاب بدول المنطقة مما استدعى خروج مئات الألوف من الأبرياء من أوطانهم.

ولنتأمل ما يحدث في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وكل دول «الربيع العربي» على وجه التقريب من حروب وخراب واضطرابات، وبدلا من تحمل مسؤوليتها السياسية والإنسانية تجاه نتائج أفعالها، دفنت الدول الأوروبية والأطلنطية رأسها في الرمال كالمعتاد.

وأغلقت الأبواب أمام تقديم مساعدات جادة لعلاج الأزمة الراهنة وراحت تبحث عن حلول أمنية وعسكرية بعدما ابتلعت أعماق المتوسط آلاف الجثث من الباحثين عن الأمن والأمان والمعيشة الأفضل من تلك التي عرفوها في بلادهم جراء سياسات تخريبية كانت القوى الكبرى الصانع الأول لها.

وما زالت تلك الدول أكثر سعيا وميلا نحو الحلول الأمنية والعسكرية غير المجدية، فقبل أيام معدودات أعلنت بريطانيا على سبيل المثال عن سلسلة من الإجراءات الجديدة تعتقد أنها ضرورية لمواجهة تدفقات المهاجرين المستمرة، ليس على الأراضي البريطانية وحدها ولكن على الغالبية العظمى من دول أوروبا.

هذه الإجراءات تدور مجددا في فلك التوجهات الأمنية المشددة وتغليظ العقوبات وبناء الأسوار العازلة، وأغلب الظن أن تلك الإجراءات التي أعلنت عنها حكومة رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون هي في حد ذاتها تعبير صريح عن المقاربات والحلول الفاشلة للدول الأوروبية في مواجهة مأساة اللاجئين والمهاجرين .

أنها تكرس مبدأ المعالجة الأمنية في مواجهة أزمة إنسانية وبشرية عميقة بدلاً من الحلول الشاملة التي تعتمد إجراءات سياسة فاعلة إلى جانب البرامج الاقتصادية والتنموية والتعليمية والتدريبية والاجتماعية الشاملة التي تساعد الدول الطاردة أو المصدرة للاجئين وللهجرة غير الشرعية على تحقيق معدلات تنمية مرتفعة تهيئ الأجواء الصحية والبيئة المناسبة لاستيعاب مواطنيها بشكل أفضل وجعل بلادهم مناطق جاذبة للعمل والمعيشة.

وليست تلك المرة الأولى التي يدفع فيها «شعوب القوارب» ثمنا باهظا للسياسات الدولية ولازدواجية المواقف ومحاولة كل طرف تحقيق أكبر قدر من المكاسب على جثث الأبرياء، فما زلنا نعيش في أجواء مأساة مسلمي الروهينجا الذين أصبحوا على وشك الفناء بسبب ما يتعرضون له من مذابح، فتحولوا قبل أشهر إلى لاجئين عالقين بالآلاف في قوارب عائمة، وتحدثت الأمم المتحدة عن فرار أكثر من 100 ألف من الروهينجا إلى البحر هربا من الاضطهاد الطائفي الذي أسفر عن قتل وتشريد الآلاف منذ اندلاع الاضطرابات العرقية في بورما عام 2012.

ولا تقل قصص الناجين من تلك المذابح ترويعا عن قصص أولئك الذين يموتون غرقا في البحر، وقد تركوا بلا طعام ولا ماء وحتى بلا وجهة واضحة في كثير من الأحيان، وتصادف ذلك مع الإعلان عن ترقية بورما - صانعة المأساة - ورفعها من قائمة الدول المنبوذة بمساندة من الولايات المتحدة الأميركية والبلدان الأوروبية.

هذه الحقائق مجتمعة تدعونا إلى التأكيد مجددا على مسؤولية الدول الكبرى والمجتمع الدولي عن صناعة وتفاقم مآسي شعوب القوارب واللاجئين وطالبي الهجرة غير الشرعية منها على وجه الخصوص، ومع الاعتراف والتسليم التام بحق الدول في حماية أراضيها وشعوبها من منطلق حق السيادة إلا أنه من المؤكد أيضا أن الحلول لن تكون ممكنة ولا قريبة ما دامت الدول الكبرى متمسكة بالمقاربات الأمنية في محاولتها مواجهة هذه المأساة الكبرى.

وإذا كان التشخيص الدقيق للمرض يعد بداية العلاج فلن تكون الحلول ممكنة أيضا إلا باعتراف الأطراف ذاتها بمبدأ «الغبن التاريخي» الذي مارسته القوى الكبرى في الماضي نحو الدول المستعمرة وضرورة اتخاذ خطوات شاملة وإيجابية للتكفير عن هذا الغبن ولمعالجة المشاكل في المنابع وليس المصب فقط. وأغلب الظن أن الدول الكبرى لن تطبق تلك الحلول الناجعة لتتجه المأساة نحو مزيد من التصعيد.

 

Email