القوانين والعقوبات والتنمية المشروعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحلم بأوطان تنعم بمعدلات تنمية مرتفعة وخدمات عالية المستوى، نحلم بأفضل وضعية في التعليم والصحة والمرافق العامة والتنظيم الشامل للمجتمعات، نحلم بحكومات قادرة على مواجهة الأزمات والطوارئ وضرب الفساد..

ولكن هل يمكن تحقيق ذلك بدون التأهيل السليم والعلمي للبشر المأمول فيهم تحقيق كل هذه التطلعات العظيمة، وهل نكتفي بترسانة القوانين وتغليظ العقوبات كمقدمات للتنمية دون الانتباه للبيئة العلمية المطلوبة والظروف والإمكانيات اللازمة لتحويل البرامج الورقية والأحلام الافتراضية إلى واقع ملموس؟

إن أطراف التنمية الوطنية في كل زمان ومكان ربما لا تخرج عن مكونين أساسيين: الأول المواطن، وعليه لتحقيق الخطط المستهدفة واجبات كبيرة، وله أيضا في الوقت ذاته حقوق لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو التقليل من أهميتها، والثاني الدولة، وعليها أيضا واجبات هائلة تجاه خطط التنمية، ولها أيضا حقوق لا يمكن تجاهلها أو التفريط فيها.

وفي هذا السياق، فكل شؤون حياتنا تبنى على عاملين أساسيين ولا يمكن لأي برامج تنموية أو خطط إصلاحية أو حتى المعاملات اليومية أن تنجح بدونهما أو في حالة غياب أحدهما، الأول الجانب التنظيمي أو التأسيسي وتتحمل مسؤوليته بالكامل الدولة ممثلة في حكومتها ومؤسساتها وهيئاتها وأجهزتها الرسمية المكلفة بوضع التشريعات والقوانين والقواعد التنظيمية للشؤون الحياتية وتهيئة البنى التحتية في مختلف القطاعات..

وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وإجمالا فهي المكلفة بتهيئة وإعداد البيئة الصالحة لمعيشة الأفراد وتنظيم العلاقة فيما بين المواطنين وبين المواطنين والأجهزة الرسمية.

ويتمثل العامل الثاني في النواحي السلوكية من جانب المواطنين، وهنا تكمن حقوق الدولة وواجبات المواطن في حتمية الالتزام بالقوانين واحترامها وعدم الخروج على قواعد الانضباط والنظام العام للدولة..

إضافة إلى احترام الحريات العامة والحريات الشخصية للآخرين، وغني عن البيان أنه بغياب الدور التنظيمي للدولة تتأخر أحوال المجتمعات وتغيب كل أشكال التنمية المستهدفة للرقي بحياة المواطنين، وبغياب الالتزام السلوكي من جانب الأفراد تسود حالة من الفوضى في كل قطاعات الدولة والمجتمع وتضيع هيبة المؤسسات.

ويبقى العنصر البشري هو محور العملية التنموية لأنه صانعها و المستهدف بها، ولهذا السبب الجوهري فمن المهم جدا أن يكون العنصر البشري شريكا أساسيا في التنمية الوطنية لكونه الضلع الثالث المكمل لها مع الموارد ورأس المال، وربما جاء العنصر البشري في المقدمة، لأنه بدونه قد لا تكون للموارد أو لرأس المال أهمية تذكر..

ومن المعروف أن هناك دولا ـ كوريا الجنوبية مثلا ـ لا تمتلك من الموارد الكثير، ولكنها عرفت كيف توظف طاقاتها البشرية جيدا، فكان الإنسان هو البطل في النموذج التنموي..

ويتطلب ذلك بكل تأكيد درجات عالية من التعليم المتنوع والتدريب والتأهيل العلمي والعملي رفيع المستوى، والاهتمام بالشؤون الحياتية للمواطن وخدماته المعيشية والصحية والاجتماعية عموما، لفتح مجالات التوظيف أمامه وربط مخرجات التعليم بسوق العمل للحصول على أفضل إنتاج ممكن من الطاقات البشرية.

ومن الضروري أيضا دمج كل فئات المجتمع في العملية التنموية دون إقصاء أو استبعاد أو تهميش لأسباب دينية أو مذهبية أو عرقية أو نوعية..

كتلك التي تفرق بين الرجل والمرأة، سواء في عملية التوظيف ذاتها أو عند المعاملة المالية، ممثلة في المرتبات والأجور والمستحقات المالية عموما، فإذا كانت المقولة الشهيرة ان المرأة نصف المجتمع ماثلة في الأذهان فمن الظلم البين حرمان المجتمع من نصف طاقته الإنتاجية، ومن ثم فإن مشاركتها وكافة شرائح المجتمع في التنمية الوطنية مسألة حتمية لتعميق روح الانتماء وتكريس مبدأ الحقوق والواجبات.

وربما أمكن القول في ضوء ما سبق ان عمليات التنمية الشاملة لا تتحقق فقط من خلال ترسانات القوانين ولا بتغليظ العقوبات والجزاءات، ولكن بالمناهج العلمية وبرامج إصلاح حقيقية، فالآباء قد يعاقبون أبناءهم بالضرب والقسوة والحرمان، لا غضاضة في ذلك أحيانا، ولكن هذه الممارسات وحدها لا تكفي لتربية الأبناء تربية سليمة.. وكذلك الدول.

 

Email