جامعات بيع الوهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيظل التعليم العالي قاطرة التنمية، والمعين الذي يرفد المجتمع بكوادره التي تنتقل من مرحلة تلقي العلم إلى تطبيقه، وبحسابات منطقية غير معقدة تستطيع أن تتوقع مستقبل الأوطان من خلال التعرف على نوعية ما ترفده الجامعات إلى بيئتها من حيث نوعية العلوم التي تخصصوا في دراستها، وهنا يكون الحديث عن أهمية ربط التعليم بالواقع من احتياجات المجتمع، وضرورة أن توظف التخصصات حسب المشكلات التي تواجه المجتمع وقدرته على طرح بدائل وحلول، هنا يأتي الدور الوظيفي للتعليم في أن ما يدرس يطبق، ويلمس المجتمع أثره في تجويد حياة الناس وجعلها أكثر يسرا، من ناحية أخرى فإن خريجي الجامعات عندما يجدون أنفسهم يعملون في تخصصات، استطاعت أن تواجه عقبات تنموية تم التغلب عليها، يشعرون بحالة من الرضى النفسي الذي يدفعهم للسير في تحصيل العلم في ذات التخصص حتى آخر مدى ممكن والخروج بأفكار ابتكارية وممارسات إبداعية وهو ما يعد قيماً مضافة.

ولأن الأمر كذلك فإن التعليم العالي من أمن الوطن، لأن العلم والتعلم هما الضمانة الحقيقية لمستقبل الأمم، وهو الثروة التي لا تنضب، وإذا أردت أن تعرف حاضر أمة وتحكم على مستقبلها فانظر إلى مدى اهتمامها بالتعليم ومستوى منتجها التعليمي.

لذا استرعاني ما نشرته الصحف حول قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي نشر قائمة لجامعات وهمية تتخذ من أميركا وأوربا مقرا لها تمهيدا للكشف عنها لتحذير الطلبة الراغبين في الالتحاق بها، كما أن صحفا أجنبية، ومدونات، وتقارير إعلامية تتحدث عن حصول ما يفوق الثلاثة آلاف شخص من دول الخليج على هذه الشهادات الوهمية.

ولا شك أن هذه القضية بالغة الأهمية لأنه قد يكون من بين هؤلاء من يتقلد في وطنه مناصب ومسؤوليات بناء على تلك الشهادات الباطلة، وبخاصة أن منهم، كما ورد، من تعرض للابتزاز من تلك الدكاكين التي تسمي نفسها جامعات حتى لا يكشف أمره، ومنهم من يعتبر ضحية لهذه الجامعات التي ظن أنها معترف بها ثم فوجئ بأنها تبيع لهم الوهم ثم تستثمره عبر ملاحقته وابتزازه، وبخاصة أنه معرض، حال انكشاف أمره، في أحسن الأحوال إلى الفصل من عمله أو السجن، فضلاً عن الفضيحة الأخلاقية والأدبية التي تلازمه.

الخطير في الأمر أن من بين التخصصات التي منحتها تلك الجهات تخصص الطب، وهو ما يمثل خطورة على حياة الناس، إذا كان صاحب تلك الشهادة يمارس المهنة دون وازع من أخلاق أو ضمير أو رادع من قانون باعتباره حاصلاً على إجازة بممارسة المهنة، وكذلك الهندسة وهي تخصصات ترتبط بأمور فنية يمكن أن تحدث مخاطر على حياة الناس، لذا فإن الأمر لا يتوقف عند الحصول على شهادة وهمية باطلة بل يعد جريمة مع سبق الإصرار والترصد من تلك الجهات المانحة، التي يجب البحث عن آلية لملاحقتها ومحاسبتها حتى وإن كانت خارج البلاد.

وكما أن التعليم المتميز هو من أسباب تقدم الأمم فإن تراجع التعليم من أسباب انهيار الأمم وتفككها عندما كاد لها غيرها من خلال تخريج أجيال يحملون الشهادات فقط، يحملونها كاسم دون رسم، وكشكل دون مضمون، وهذه هي آفة الآفات أن يلجأ بعض ضعاف النفوس لمثل هذه الدكاكين للحصول على ورقة من باب الوجاهة الاجتماعية أو المباهاة، وهو يدخل في إطار التدليس وشهادة الزور، وكل ما بني على باطل فهو باطل.

لذا فإن مسارعة الوزارة بالكشف عن أسماء تلك الجامعات وحصر الحاصلين على شهادات منها ودراسة حالتهم من الأهمية بمكان، وبخاصة أن خطر هذه الجامعات لا يقل عن خطر الاتجار في المخدرات، التي قد يتوقف ضررها عند من يتعاطاها، غير أن الحصول على شهادة باطلة يتعدى خطرها ويتسع بمقدار مسؤولية الحاصلين عليها وطبيعة عملهم.

وقد أحسنت الوزارة صنعا حين نسقت مع وزارة الداخلية وهيئة تنظيم الاتصالات لحجب المواقع الإلكترونية لتلك الجامعات وبخاصة أن التقدم لها يتم إلكترونيا دون معرفة مسبقا بحقيقة واقعها المرير، وهو ما يتطلب إشاعة ثقافة التقديم للجامعات بالخارج عبر مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي يعتبر الشباب هم الأكثر استخداما لها للحصول على المعلومات.

كما أنه يجب على القطاع الخاص أن يحرص على معادلة شهادات موظفيه قبل تعيينهم حتى لا يصبح الباب الخلفي الذي ينفذ منه الحاصلون على تلك الشهادات ويمرون مرور الكرام.

ورغم أن الحاصلين على هذه النوعية من الشهادات في تقديري قلة لا تعد غير أن الوقوف أمام هذه الحالات ورصدها ومنع زيادتها خير من أن تصبح ظاهرة وتزاد تعقيدا، وبخاصة أنني أعتقد أن أهداف هذه الجامعات ليست ربحية فحسب بل قد تتعدها إلى الرغبة في تصدير جيل للدول، التي تسير بخطى ثابتة نحو التقدم، يحمل شهادة ولا يفقه علما أو فكرا، وتلك حرب تفوق ضراوتها الحروب العسكرية، لذا فإن الحفاظ على منظومة التعليم أصيلة نقية يعد أمن الوطن.

Email