المحاكمة الذكية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ظل ازدحام الشوارع وصعوبة العثور على مواقف للسيارات، خصوصاً حول رحاب محاكم الدولة عموماً ودبي خصوصاً، فضلاً عن ضيق مباني المحاكم، على الرغم من حجمها وفخامتها..

وفي خضم تكاثر تعداد السكان، وبالتالي القضايا المنظورة أمام المحاكم بأنواعها، سواء الجزائية منها أو المدنية بفروعها التجاري والعقاري وخلافها، عدا عن كثرة عدد الموظفين والمراجعين وزيادة عدد المحامين ومناديبهم، ولذلك كان لا بد من ابتكار نمط جديد للتقاضي لحل مثل هذه المشكلة الحقيقية، فضلاً عن طول أمد التقاضي، وكذلك في محاولة لتغريز مبدأ المحافظة على البيئة من جهات عدةٍ، فكان لا بد من طرح حل جديد ذكي استثنائي يواكب تطور وحضارة الإمارات.

كنت قد ناديت مراراً وتكراراً، وأنا الذي بات لي أكثر من 20 عاماً في مهنة المحاماة، وأراقب عن كثب مراحل ترقي المحاكم، منذ نهايات العقد الثامن من القرن الماضي وحتى تاريخ اليوم، فوجدت أساس الأشكالية ومعظمها تتمثل في الحضور أمام المحاكم، خصوصاً في الأنزعة المدنية بفروعها من قبل أطرافها وممثليهم من السادة المحامين..

والتي غالباً ما يعاني أطراف الدعوى فيها من إجراءات الإعلانات، وهي التي أشرت لها في مقالي السابق، وطرحت طرقاً لحلها، والمشكلة الأخرى تتمثل في الحضور أمام المحاكم لتبادل المذكرات أو تقديم صور مستندات أو أصولها، وكذلك تأجيلات الدعاوى لحين ورود تقارير الخبراء في الأنزعة المختلفة..

وهي الإجراءات التي لا تحتاج في حقيقتها حضوراً وتمثيلاً أمام المحاكم ذا هدف، عدا عن عملية الاستلام والتسليم، هي التي تلقي هماً وثقلاً على كاهل وعاتق المحامي متمثلاً في هم توزيع الإنابات ومحاولته البائسة اليائسة لحضور جميع جلساته أمام المحاكم المتفرقة هنا وهناك، والتي تعد مشكلة مؤرقة حتى أن المحامين باتوا يشتكون منها فضلاً عن أن المحاكمات باتت صباحية متباينة الأوقات وأخرى مسائية.

إن التطور الذي تشهده الإمارات والحكومة الذكية التي نادى بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، تستلزم أن نتطور في القضاء والعدل..

وإن هذا التطور لا نقصد به الناحية الفنية لأعضاء الهيئات القضائية فإنهم على درجة علمية متميزة وإنما من الناحية الإجرائية، فلو تم الاستغناء عن حضور الجلسات خصوصاً في الأنزعة المدنية بفروعها بأن يكون استلام وتسليم المذكرات عن طريق برنامج تعده وزارة العدل ويوزع على المحاكم، بأن يقبل أمين سر المحكمة في كل دائرة على حدة استلام المذكرات وصور عنها، أما الأصول وقت الحاجة، فإذا استلزم تقديمها تُسلم لأمين السر باليد أو بالبريد المسجل بعلم الوصول، ويمكن لأمين السر أن يشعر المرسل بكبسة زر واحدة باستلامه لعدد كذا صفحة وعدد هكذا مستند..

ويقوم بدوره بإرساله للطرف الآخر الذي اعتمد عنواناً بريدياً إلكترونياً له أمام المحكمة وفي كل معاملاته، وبثانية واحدة يكون لدى الطرف الآخر نسخة من المذكرة ومرفقاتها، وذلك دون الحاجة لكي يثقل المحكمة بتواجده لقضية واحدة أو حتى عشرين قضية تحتاج منه متابعة مندوب أو أكثر.

أعلم أن مثل هذا الرأي سيجد معارضة قانونية وذلك لعدم وجود تشريع يقضي بذلك، ولكن هذا الأمر ممكن التنسيق له وإعداده في غضون شهر إن لم يكن أسابيع، وكذلك بالنسبة لضمان الوصول وهذا ما يمكن أن يتقنه المبرمجون لجهة تأكيد الوصول والاستلام. وليس في ذلك معضلة إذ باتت هذه التقنيات أمراً يسيراً ومقدوراً عليه لدى المختصين لإثبات الاستلام والتسليم.

كما أنهم سينتقدونه بحجة أننا بذلك نكون قد قلصنا من فرص العمل للمحامين ومناديبهم إلا أنها بالعكس تماماً فقد نكون قد وفرنا الكثير من الوقت والجهد لاستثماره في تطوير مهنته والعلو بذاته ليصبح محامياً ناجحاً، وذلك من خلال تواجده بالمكتب الذي سيزيد من تواصله بموكليه، ويُلِم بقضاياهم ووقائعها وأدلة ثبوتها من أجل المرافعة إن لزم الأمر..

وخصوصاً الدعاوى الجزائية والشرعية لما تتسم به من طابع خاص فنحن من أنصار تواجده أمام القاضي وتقديم مرافعته لكي يساعد المحكمة في الوصول إلى الحقيقة والعدل، لأنه إنسان مسؤول عن الدفاع عن المظلوم ورد الحقوق ودفع الاتهام الباطل...

ومن ثم كان للمحامي ولا يزال إسهامات قوية في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما أنه مبجل إلى درجة قول فولتير ((كنت أتمنى أن أكون محامياً لأن المحاماة أجلّ مهنة في العالم)).

فنحن بابتكار هذا النمط الجديد من التقاضي نجعل من المحاماة خلقاً سوياً متميزاً ناجحاً يسمو بنا عالياً...

Email