سعيد مدى الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مازلت أذكر ذلك اليوم المشؤوم. اتصل زميلي في العمل وقال لي بكل حزن وأسى: سعيد بين الحياة والموت. ادع له..

كان من أنشط الموظفين في المؤسسة وأكثرهم إيجابية. مثال للمواطن العاشق لبلده. ينثر السعادة هنا والابتسامة هناك. يقوم بالمهام المطلوبة منه بكل دقة واحترافية. أصبح ذات يوم وصداع غير طبيعي يلف رأسه. لم يعر اهتماماً وانطلق إلى عمله كالمعتاد. زاد الصداع وامتد الألم إلى الرقبة. أعراض غريبة تحدث للمرة الأولى.

طمأنه الطبيب ووصف له بعض المسكنات وطلب منه الراحة لعدة أيام. وفي خلال يومين تحسن الوضع واختفى الصداع وعاود نشاطه. لم يكد يمر أسبوع حتى عاد الصداع المزعج . انطلق مسرعاً إلى الطبيب وكله حيرة وخوف من هذا الكابوس المزعج.

تأفف الطبيب للحالة ووصف نفس المسكنات من دون أن يرفع عينيه من شاشة الكمبيوتر. تعجب سعيد من هذه المعاملة الجافة وهو الذي طالما كان يسمع في صغره بأن الطبيب في منزلة الحكيم، وما هي إلا أيام قلائل حتى جاءت المكالمة المشؤومة.

إصابة بجلطة دماغية نادرة. من أصعب لحظات الحياة أن ترى الزوجة سندها ورفيق دربها بين الحياة والموت وهو مازال في سن الشباب. استجمعت أم راشد قواها وتوجهت بزوجها في الإسعاف إلى مستشفى راشد. تبين ضرورة القيام بعملية طارئة لتخفيف ضغط الدماغ وإزالة الدماء المتجمعة من أثر الجلطة.

تكللت العملية بالنجاح. وكانت المفاجأة. الجلطة أصابت مركز الكلام والحركة في الدماغ ولن يستطيع الكلام بشكل طبيعي أو الحركة لفترة طويلة، لأنه سيحتاج لتعلم الحروف مرة أخرى وإلى العلاج الطبيعي للوقوف على قدميه.

في غضون شهرين استطاع فريق العلاج الطبيعي في المستشفى إعادة الحياة إلى أوصال سعيد، وفي موازاة ذلك شارك مركز دبي لصحة المجتمع (أحد المراكز العلاجية المتخصصة في إعادة النطق والسلوك) في إعادة تعليم سعيد حروف الهجاء بكل مهارة واحترافية. مثال راق في التعاون بين الجهات الحكومية والخاصة.

بدأ سعيد رحلة جديدة في تعلم المشي من جهة والكلام من جهة أخرى. وكانت زوجته الجندية المجهولة، والتي كرست كل ثانية من وقتها من أجله ولكي تثبت أن المرأة بحق هي روح المكان متى ما أرادت ذلك.

ماذا عن جهة العمل، وهي بالمناسبة من المؤسسات شبه الحكومية المعروفة في الدولة. هل تخلت عنه؟ وخصوصاً أنه مرت ستة شهور منذ خروج سعيد من المستشفى، ومازال بحاجة لشهور أخرى لإعادة التأهيل. هنا تتجلى ثقافة المؤسسة في كيفية احتواء موظفيها واعتبارهم ثروة لا تعوض.

منذ أول يوم دخل فيه سعيد المستشفى وزملاؤه في العمل كانوا في غرفة انتظار المستشفى يدعون له. وبعد نجاح العملية كانوا يزورونه يومياً. يقول المثل: «الجزاء من جنس العمل»، وهكذا كان جزاء سعيد في إيجابيته ومحبته للجميع من دون تفرقة، مشاعر جياشة وتكاتف عميق من الجميع.

أما الموارد البشرية فقد ساندت سعيد في كل خطوة، ولم تكتف بذلك، بل (وبناء على دراسات علمية كثيرة، والتي تؤكد أثر العمل الإيجابي في صحة الفرد والدور العلاجي للعمل في إخراج المصاب من العزلة والاكتئاب والإحساس بقيمته)، قامت بإرجاع سعيد إلى عمله، ولكن مع أخذ حالته الصحية في الاعتبار.

فتم تقليل عدد ساعات العمل وتغيير الوصف الوظيفي لسعيد، وجعل المهام تتناسب مع الوضع الجديد حتى تكتمل فترة إعادة التأهيل. سيمفونية رائعة سطرها الجميع لكي يكون بطل القصة بحق «سعيداً مدى الحياة في دولة السعادة والنماء».

 

Email