متى ولماذا ينسحب المثقف؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

الذين تابعوا حوار الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل مع الإعلامية المصرية لميس الحديدي يوم الجمعة الماضية, ونشرت أجزاء منه في صحف عربية عديدة, لعلهم لاحظوا حديثه عن ضرورة التصدي لدولة الفساد الموجودة داخل الدولة المصرية حتى تستقيم أمورها.

ولعل المتابعين لما ينشرمن مقالات على هذه الصفحات قد طالعوا مقالا سابقا بعنوان «دول مطلوب هدمها داخل الدولة المصرية» في مقدمتها دولة الفساد, واستوقفتنا جميعا تلك الدعوة الجريئة التي أطلقها الكاتب الكبير، بمطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقيام بثورة على نظامه!

ومن المنتظر أن يطرح هيكل وجهة نظره كاملة في تلك المسألة وهذا المطلب «المفاجئ» في أحاديث تالية, ولكن العاجل والطارئ والمطروح للتأمل في هذا المجال، هو قدرة «الأستاذ» على تكريس مكانة «المثقف» ودوره المجتمعي وطبيعة علاقته بالسلطة، أو بالسياسي بمعنى أدق، وهي إشكالية تكاد تكون أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقى أبدية.

علاقة المثقف والسياسي, متى يقترب كلاهما من الآخر ومتى يفترقان؟ وهل يجوز للمثقف أن ينسحب لأي سبب من الأسباب, وإذا كان ذلك جائزا فمتى وكيف ولماذا؟ قبل أن نجيب أو نحاول حتى الاقتراب من أي اجتهاد حول الإجابات المحتملة, لا بد من تأمل حالة الأستاذ هيكل ذاتها, فعلى الصعيد المصري.

وربما العربي وحتى العالمي، هو الوحيد الذي يمكن أن تجد لديه الطرح المختلف ووجهة النظر البديلة، وربما كثيرا من الأمور الخفية التي يصعب اتخاذ قرار أو تكوين وجهة نظر متكاملة قبل بروزها على السطح.

وهو أيضا المحلل والمفكر والكاتب الذي لا يزال قادرا على أن يأخذك إلى آفاق أكثر اتساعا من المحيط القائم حولنا، بعد رحيل كبار المفكرين والكتاب حتى من أبناء جيله.. ومن ثم فالاستماع إليه وقراءته أمران ضروريان، مهما تباينت المواقف واختلفت وجهات النظر.

إن القنبلة التي ألقى بها هيكل بدعوته السيسي إلى ثورة جديدة، ليست الأولى من نوعها, فقد اعتاد على مثل هذه «القنابل» المثيرة للجدل على مدار ستين عاما خلت، في مختلف القضايا والأمور التي تهم المواطن والسياسي على حد سواء.

ودفع ثمنا غاليا لكثير من مواقفه وآرائه وصل به إلى حد السجن في أواخر فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات (5 سبتمبر 1981), إلا أنه لم يتراجع ولم ينسحب ولم يبخل على أمته وشعبه بالتحليل والمعلومة، وحتى النصيحة المبنية على حسابات دقيقة - أو هكذا نظن - ولا يزال حتى اليوم رغم اقترابه من عامه الثاني والتسعين.

وليس المقصود من تلك الكلمات تجديد الإشادة بالأستاذ، فهو من هو ولا أظن أنه بحاجة إلى مزيد من كلمات الإطراء, ولكن المقصود هو تقديم نموذج عملي وإيجابي لعلاقة السياسي والمثقف, سواء عن قرب أو بعد.

وقد عاش هيكل التجربتين بنضج تام, وكيف يمكن للمثقف أن يبقى على مبادئه وتوجهاته حتى لو تعارضت مع الدولة أو السلطة، وكيف يمكنه خدمة وطنه وشعبه بمزيد من التثقيف وحوارات المعرفة وتبصير العباد بالصحيح والخطأ، حتى خارج الإطار الوظيفي الذي قد يربطه بمؤسسات رسمية.

وتبقى الإشارة إلى أن هذا الحديث فرضته غيوم آخذة في التجمع على الساحة المصرية، وهي بالتأكيد ليست في حاجة إلى المزيد منها, بل إن الجهود مطلوبة لتبديد مختلف السحب التي تحول دون تطبيع المجتمع المصري.

كانت بداية تجمع هذه الغيوم مع انزواء واختفاء الكاتب والروائي الشهير علاء الأسواني، صاحب الإبداعات الروائية الشهيرة والمقالات الصحفية الناقدة والمتميزة, وابتعاده جاء احتجاجا على كثير من المشاهد التي اعتبرها نقضا لمبادئ ثورة 25 يناير، وخاصة ما يتعلق بالحريات العامة وحرية التعبير خاصة.

وتبعه أيضا في الأسابيع القليلة الماضية المفكر البارز الدكتور يوسف زيدان، الذي يعد بالفعل من أهم وأرقى المثقفين والمفكرين العرب في المرحلة الراهنة، إن لم يكن أهمهم بأبحاثه وكتبه ودراساته التي هدمت الكثير من المسلمات والخزعبلات في حياتنا الثقافية والعامة.

اختار زيدان أن يسير على نهج الأسواني رافضا كثيرا مما يجري على الساحة المصرية, وهو في الأساس من الذين جهروا برفضهم لبعض ما جاء في بيان 30 يونيو، انطلاقا من حماية مبادئ ثورة يناير ودفاعا عن الحريات العامة, إلا أن زيدان لم يستطع إخفاء غضبه لتولي بعض الرموز المنتمية للماضي «البغيض»، لبعض المناصب الثقافية الرسمية في الدولة, وبذلك لم يبعد ذاته الوظيفية عن منطلقات احتجاجه.

وفي الأيام الأخيرة أيضا شن المخرج السينمائي الشهير خالد يوسف هجوما ضاريا على الأوضاع الراهنة، وعلى ما يحدث في البلاد من تطورات اعتبرها ردة إلى عصر مبارك.

هذه المشاعر والتوجهات ليست قاصرة على هؤلاء المفكرين والمثقفين فقط، فهناك من يشاركهم الرأي ذاته, وفي ضوء ذلك يتجدد السؤال؛ هل يجوز للمثقف أن ينسحب من الحياة العامة لأسباب وظيفية أو مجتمعية أو حتى سياسية؟

بالتأكيد لا يستطيع كائن من كان أن يفرض على مبدع أو مثقف توجهاته أو آراءه، ولكن طبيعة المرحلة التي يمر بها أي مجتمع قد تفرض واقعا يحظى بإجماع شعبي أو مجتمعي، حتى لو تعارض مع أفكار المثقفين والنخبة، رغبة في البقاء وحبا في الحياة.

ولا شك في أن الكاتب والمبدع والمثقف يستطيع أن يكرس وجوده ويروج أفكاره ووجهات نظره، التي ستجد بالقطع مساحة من الحوار والنقاش الذي يصب في النهاية في مصلحة مختلف الأطراف، دون انسحاب أو انزواء, فليس مطلوبا من المثقف إرضاء السياسي في كل موقف, كما أن نموذج المثقف الموظف لا يحظى بالقبول عادة.

 

Email