ذكريات مع مجهول

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان يوماً هادئاً متناغماً في إحدى ضواحي لندن، حين جلست في مقهى جانبي مطل على طبيعة خلابة، وفي وهلة دهمته أمطار غزيرة وانقلب يوما مضطربا مربكا.. سارعت في الرحيل مع الجميع من المقهى السافر لأحضان الطقس، لائذين بالفرار من هجمات المطر التي بدت تتصاعد بغزارة. رجعت لمسكني ثم فتحت حقيبتي، وذعرت عندما اكتشفت اختفاء محفظتي.

جلست في ذهول أتمتم "لقد ضاع كل أوراقي ونقودي، حتى بطاقاتي ومفاتيحي، يا إلهي كيف أسافر غدا وأعود إلى دياري وأدرك المواعيد والمناسبات المهمة التي تنتظرني؟ إنها لكارثة". جلست برهة وقد امتلكني خوف رهيب، وتقمصني توجس خبيث، فقد فتح القلق حدوده وأوقعني في شباكه..

أفاقني رنين الهاتف، سارعت لالتقاطه هاربة من صرعات الحيرة المتذبذبة.. كان صوتا حازما من أحد فروع مركز الشرطة يطلب حضوري الشخصي، تحركت سريعا لاهثة إلى أن وصلت المركز وكأن كابوسا رهيبا يلاحقني.

وفور وصولي كان الضابط أمامي والمحفظة بجواره، سلم علي ثم قال: تفضلي المحفظة، يرجى تسليم الأوراق الثبوتية والتوقيع بالاستلام بعد التأكد من محتويات المحفظة. جلست بهدوء أراجع وأدقق، وقد ألقى القلق زمامه وأطلق توتري.

وقفت برهة بعد توقيعي بالاستلام وما زالت آثار الذهول تلاحقني، قلت: شكرا جزيلا، هل لي بمعرفة كيف ظهرت المحفظة؟ رد الضابط بتأنٍّ: أتى شخص ووضعها على طاولة زميلي بعد سرد مختصر للحدث، ورحل فجأة.

قلت باندفاع: كيف؟ هل من وسيلة أشكره أو أقدم له بطاقة أو هدية شكر وعرفان؟ أجاب وهو يؤشر إلى الممر الطويل الذي دخل منه الشخص: رحل من هنا، وللأسف لم نستطع أخذ بياناته فقد اختفى سريعا، يبدو أنه لاحظ سقوط المحفظة أثناء الدفع، إلا أن الأمطار الكثيفة حجبت رؤية الحضور وشكلت حاجزا لإبلاغك حينها، ثم حضر إلى المركز وسلمها في عجالة.

تأملت لحظة ذاك الممر الطويل الذي رحل منه قبل أن أغادر المكان، وظل شكل الممر يلاحقني لعلي أجد مسلكا للإفراج عن أفواج كلمات العرفان والشكر المحصورة بداخلي، والتي بدت تستغيثني وكأنها حكمت بالسجن الأبدي.

توقظني أصداء ذكريات لأشخاص لم أتمكن من معرفتهم، أو حتى الإعراب عن تقديري لهم، ولكن تظل مواقفهم محفورة في الصفحات النفيسة لذكرياتي.. وقد كان يوم عودتي مع صديقاتي من رحلة سياحية في إحدى الدول الإفريقية يوما استثنائيا، عندما ثارت إحداهن مفجوعة ومتوترة للاختفاء المفاجئ لابنتها الصغيرة، إلا أنها انقلبت مبتهجة بعد أن رجعت طفلتها لأحضانها بمعاونة فتاة نحيفة سمراء. ظلت ملامح تلك الفتاة السمراء متقدة في ذهني، وقد آثرت عدم السفر غير آبهة بموعد إقلاع طائرتها، حين وجدت الطفلة باكية وضالة وبقيت معها بحثا عن أمها.

ويوم آخر قيّم سجله بدوي مسن، حيث كرس وقته لنجدتنا وتحمل لسعات الصيف تاركا أمتعته على الرصيف، حين وجدنا ضالين في منطقة نائية وسط الصحراء بعد نفاد البنزين، ثم استأذن لاحقا باستعجال لأداء الصلاة بعد أن أيقن سلامة رجوعنا للمحطة. ونال صاحب المتجر الآسيوي أيضا صفحة ذهبية، وذلك أثناء جولتنا السياحية في إحدى الدول الآسيوية، حين ترك متجره المكتظ بالزوار قاطعا الطريق لإحاطتنا، منبها ومعتذرا قبل رحيلنا الاضطراري، ليعيد لنا مبلغا بعد كشف أخطاء في الحساب.

وقد تتسابق خطوات الأيام تاركة خلفها ذخيرة من القصص المتراكمة، إلا أن شعلة الذكريات الإنسانية تظل نبراسا يضيء وسط الحياة المتعثرة.. إنها كالأمطار الدافئة في بيئة قاحلة للموارد الحسية، وكاللمسات الدافئة في محيط مكتظ بالشرر العدواني. تلك المواقف السامية أعلام مرفوعة فوق جثث ذكريات زهيدة قتلتها رصاصات الزيف والغش.

خالص الدعوات وجل التقدير لأصحاب تلك القلوب النابضة بالمشاعر النبيلة، والمفعمة بالضمير الوجداني الحي، لعل تلك الأفئدة تنمو وتتكاثر لترسخ في النفوس أواصر البر والسلام والسكينة في عالم متقلب ومتهور، ولتضيف ثراء وبريقا في طيات صفحات أزمنة خفيفة وباهتة.

Email