العرب وفن "المش" ممكن

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتاد العرب تعريف السياسة على أنها »فن الممكن«، ولا أدري من سوق هذه العبارة في عالمنا العربي بهذه الكفاءة وهذه السرعة، التي وضعت هذا التعريف في مصاف النصوص المقدسة وحفظه وردده الكثيرون، رغم أن أساس السياسة ومادتها هو عالم »المش« ممكن، أو ما هو ليس ممكنا، وتحويله إلى أمر ممكن ومحتمل ويمكن تحقيقه على أرض الواقع.

تعريف السياسة في عالمنا العربي على أنها فن الممكن، هو الذي أوصلنا إلى الحالة التي نحن فيها، والتي يكون فيها تقريباً نصف دول العالم العربي ضمن عداد الدول الفاشلة أو دول في طريقها إلى الفشل، والسبب الرئيس في ذلك هو أننا بدأنا بتعريفات خاطئة للسياسة.

طبعا لدي ملحوظات كثيرة على تعريفات السياسة حتى في سياقها الغربي، مثلي مثل كل من درسوا علم السياسة كعلم. فبداية العلم هو تحديد المفاهيم، وكيف يتم تحويل المفاهيم المجردة إلى مفاهيم إجرائية يمكن تطبيقها على الأرض، أو تنفيذ خطط بناء على التعاريف المحددة للمفاهيم الأولية.

السياسة لها تعريفات عدة مثل التعريف التقليدي المعتمد في العلوم السياسية وهو »توزيع إمكانات وكل ما هو ذو قيمة في المجتمع بشكل مشروع ومقبول«، وهذه ليست ترجمة حرفية لما قاله أستاذنا ديفيد ايستين صاحب نظرية تحليل النظم السياسية. تعريفات كثيرة للسياسة ليس من بينها فن الممكن، والذي أظنه جاء نتيجة لدراسة علم التفاوض في إطار الوصول إلى الموافقة.

ومع ذلك لو قبلنا بأن هذا جزء من السياسة، يجب أن ندرك مع هذا المفهوم عيوبه. »السياسة هي فن الممكن« هو تعريف عاجز، وكذلك أيضا هو تعريف العاجز والفعل السلبي. أي نتعامل مع ما هو ممكن ونترك ما ليس ممكنا، وبهذا تموت فكرة التغيير.

تعريف السياسة على أنها فن »المش ممكن«، معناه أن الدولة التي تحدث فيها العمليات السياسية، هي دولة حية تحول ما هو غير ممكن إلى ما هو ممكن.

تعريف توزيع الاستحقاقات وكل ما هو ذو قيمة في المجتمع بشكل فيه عدل يسمح لمعادلة الرضى بين الحاكم والمحكوم بالاستمرار، هو تعريف يدعو السياسي إلى العمل بشكل لا يتوقف لإرضاء مواطنيه.

لا يفعل ما هو ممكن، بل أحيانا يفعل ما هو مستحيل، لخلق توافق اجتماعي يجعل معادلة الحكم مقبولة ومستمرة.

كتبت من قبل في هذا السياق بطريقة أكثر تبسيطاً، وكان التركيز منصباً على الشأن المصري وحده بعد ثورات 25 يناير و30 يونيو، ولكني هذه المرة أحاول أن أطرح الشباك بشكل يشمل العالم العربي. فالخلل الذي يحدث في مصر على مستوى المفاهيم، يكرر نفسه في العالم العربي بأضعاف مضاعفة أحياناً، وبضرر أكبر.

هناك تعريفات للسياسة قادمة من عالم علاقات الدول ببعضها، مثل أن تقول إن تعريف السياسة هو: »أن تجعل الآخر يريد ما تريد«.

وهو تعريف ربما مغاير تماماً وعلى العكس من فكرة فن الممكن الرائجة، فهذا التعريف ليس مرتبطاً بالعمل السلبي والتعامل فقط مع ما هو ممكن، بل هو مرتبط بالمبادرة والعمل الإيجابي. هذا التعريف قد يكون بداية معقولة للحديث عن السياسة في العالم العربي، داخل الدولة الواحدة وبين الدول وبعضها، أي أنه تعريف يستخدم سياسة الإقناع وجاذبية النموذج، وليس التغيير عن طريق العدوان أو العنف.

وسأنطلق من تعريف السياسة القائل بإقناع المنافس بأن ما تريده هو مفيد بالنسبة له أيضا، في محاولة لرسم ملامح بعض المفاهيم الحاكمة لمنطقتنا العربية.

تعريف السياسة على أنها فن الممكن، معناه أن منطقتنا العربية ستظل تخوض في الطمي إلى أزمنة طويلة.

ولكي نخرج من الوحل علينا أن نبدأ بتعريف السياسة على أنها فن »المش ممكن«، حتى لا يصيبنا الكساح الاستراتيجي. واحد من التعريفات التي أطرحها اليوم، هو أن »السياسة هي أن تجعل الآخر يريد ما تريد«، أي أن يقتنع المنافس، شخصاً كان أو منظمة أو دولة، بأن ما تريده هو في مصلحته، ويجب أن يرغب فيه هو أيضا لأن فيه فائدة له.

فن الممكن يعتمد على استخدام محدود لأدوات القوة، بينما فكرة أن تجعل منافسك يريد ما تريد هو استخدام خلاق لكل أدوات القوة على إطلاقها، أي أن تستخدم القوة الناعمة القادرة على الترويج للفكرة والتأصيل الفكري لعملية الإقناع بها لدى الطرف الآخر، بحيث لا يكون الإقناع مجرد تضليل للذات والآخر، بل مبني على فكر متماسك. إذن، التعريف الثاني للسياسة فيه استخدام لخليط من القدرات الصلبة والناعمة معا، بدرجات مختلفة وعلى مستويات متعددة، للوصول إلى تحقيق الأهداف.

وهناك فرق بين أن يريد العالم من حولنا ما نريد كعرب مجتمعين، وبين ما نريده كدول متفرقة أو ما تبقى من عالمنا العربي ومازال يمكن تسميته دولة. أن يريد العالم ما نريد يعني تطوير مفهوم حاكم للأمن القومي العربي، ويجب أن يكون هذا هو المفهوم الحاكم لكل تصرفات دولنا، أو الحاكم للحد الأدنى من التصرفات.

هو المفهوم الحاكم، وهذا يتطلب حكومة مختلفة، ومؤسسات مختلفة، وصيغة تعاون مختلفة. هذا يتطلب مجموعة إجراءات صعبة، تقع في إطار التنسيق بين وزارات الخارجية المختلفة، ومستشاري الأمن القومي في البلدان العربية المختلفة، بحيث تكون تحيزات الوزارات على الأقل مربوطة بالتوجه الاستراتيجي لأمن قومي عربي مبلور بصيغة واضحة.

هناك مؤسسات مختلفة للأمن القومي العربي؛ من مخابرات عامة في بلدان مثل مصر والسعودية، ولكن هناك مفهوما جديدا لمستشار الأمن القومي بدأ في التبلور في بلدان الخليج العربي. التنسيق بين هذه الأجهزة المختلفة ومستواه، هو بداية الانتقال من عقلية السياسة كفن الممكن، إلى فن المش ممكن.

التحدي الأكبر أمام العالم العربي اليوم، هو بناء قدرات الدول ومؤسساتها لتحمّل القادم من الهزات وامتصاصها، بحيث لا يؤثر ذلك على الأوطان واستقلالها وسلامة أراضيها. هذا يتطلب تشكيل رؤية عربية جديدة، تتجاوز تعريف السياسة كفن الممكن إلى تعريف جديد للسياسة، هو أن تجعل خصمك ومنافسك يريد ما تريد.. أو السياسة كفن المش ممكن.

Email