خواطر بين الماضي والحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتاج الإنسان في رحلته مع الحياة، أياً كان قصر أو طول ما قد قطعه منها، إلى وقفات للتأمل، ذلك أنه في ما نقوم به من أعمال قد نخطئ وقد نصيب، وتقييم ما نقوم به يتوقف على رؤيتنا نحن بالدرجة الأولى، وهو ما يؤثر بالتبعية في قدرتنا على الاستمرار والعطاء.

فإذا أيقنا أن حياة الإنسان هي خليط بين الصواب والخطأ، وأن المعصومين هم من اختصهم الله بفيض منه دون باقي البشر، لا بخصائصهم البشرية فقط، وإذا أيقنا أن الخطأ جزء من السلوك الإنساني، استطعنا دائماً أن نقبل الآخرين بما لديهم من هنات، وكما يقول الحكيم »من أراد صاحباً بلا عيب صار بلا صاحب«.

وأغلب ما نتعرض له في حياتنا الاجتماعية والمهنية، يتقلب بين الرديء والجيد، والحقيقة المطلقة لا يملكها أحد، والكلمة النهائية القاطعة المانعة في قراراتنا اليومية لا يمكن إدراكها بيسر، والخطأ الذي يقع فيه الكثير منا، أنه عندما يختلط الصواب بالخطأ في ما نقدم عليه، نركز أكثر على تفحص الخطأ، فيقل ما نشعر به من حماسة ودافعيه وثقة، دون أن نحاول إدراك أن هناك إضاءات كبيرة يجب تفحصها بعناية ودقة، وأن معرفة الأخطاء هي بداية الطريق للنجاح، والحياة بين هذا وذاك، ليل يزيحه ضوء النهار، وصيف يخلفه شتاء، وضعف تجبره قوة، وعسر بعده يسر.

المهم عند مواجهة مواقف يبدو في ظاهرها التعثر، أن عليك أن تبحث دائماً عن الجوانب المضيئة فيها والبناء عليها، وإدراك هذا الضوء في آخر النفق المظلم، هو الذي يسعد النفس ويجدد الآمال ويشحذ الهمة والطاقة التي تتجدد لاستكمال ما قد بدأ، وفي هذا يقول »توماس أديسون«: إن كل محاولة خاطئة كانت بالنسبة لي طريقة جديدة للتعلم، وهو ما يجعلك تستمتع بحاضرك، ويمنحك طاقة إيجابية للتعامل مع الأخطاء، حتى لو كان هناك ندم، فإن الندم على عمل قمت به فلم تصب، أفضل من الندم على عمل كان ينبغي أن تقوم به ولم تفعل، فهذا هو الندم السلبي، أما الأول، فذاك ندم إيجابي، والبون بينهما شاسع.

كما أن الشعور بالألم يمكن أن ننظر إليه باعتباره جرس إنذار وتنبيه لخلل يجب إصلاحه، وكسر ينبغي جبره، فلولا الشعور بالآلام، ما شخص طبيب مرضاً وعالجه، بل إن أخطر الأمراض وأصعبها، هي التي لا تسبقها الآم، وتباغت صاحبها بعد أن تكون قد تمكنت من أعضائه وعز الشفاء منها.

ولأن الحياة متغيرة، فإن أحوالها كذلك متغيرة »يوم لك، فلا تبالغ في الفرح، ويوم عليك، فلا تعذب نفسك كمداً، فكلاهما في انحسار«.

في أحد الأسفار إلى الهند، وعند تناول طعام الغذاء، ألح أحد الذين يدعون قراءة المستقبل عبر خطوط اليد على أحد الأصدقاء أن يقرأ له خطوط يده، ليرى ما سيقع له مستقبلاً، فقال له: إذا كان ما ستقوله سيسعدني فلا يد لك في حدوثه، وإذا كان غير ذلك، فلا أنت ولا أنا أملك أن أدفعه، ولن يكون غير قلقي في الحاضر وخوفي من المستقبل، وخسرت فوق ذلك مالاً يكفينا لوجبة الغداء، وهو ما أملك أن أستمتع به الآن. ذلك أنه من أسباب سعادة المرء، النظر إلى ما بين يديه الآن، والرضا به يخلصنا مما يشتت أفكارنا ويحول بيننا وبين ما يحيط بنا من أشياء جميلة ضاعت يوم ألفناها، فنحن نصنع حاضرنا بما نوليه لما حولنا من اهتمام، وبما في أيدينا، ولو كان قليلاً، والتطلع الدائم لما ليس في أيدينا أو فوق طاقتنا، يفسد على الفرد الاستمتاع بحاضره، والشاهد، ذلك الإعلان الذي يعرض كل يوم مرات عديدة، ويختزل تلك الحالة التي تصيب الكثير حين يهدي ذلك الفتى الأنيق لعروسه سيارة، فيتهلل وجهها بشراً وفرحاً، والمحيطين بها من أثر الهدية، غير أن السيارة الجميلة باتت غير ذلك حين شاهدت العروس فتاة أخرى لديها أجمل منها، فما كان منها إلا أن ردتها إلى من أهداها إليها، وتركته وأسرتها وحيداً يتأمل كيف تحولت النعمة إلى نقمة، والسعادة إلى حزن وكمد.

إن الاستمتاع بما لدى كل منا في اللحظة الآنية، من الجوائز الكبرى لحياة آمنة وهادئة وهنيئة. فقد تكون حولنا أشياء جميلة، غير أن التأمل والاستغراق الدائم في الندم على أفعال قمنا بها في الماضي، أو البكاء على اللبن المسكوب، يفسد الحاضر، كمن يسير في السيارة وعيناه على المرآة لرؤية من خلفه، فيحال بينه وبين الرؤية الأمامية، وقد يقع له حادث، وهو نفس حال القلق الدائم مما هو آت، ولكن التعلم من أخطاء الماضي هو الطريق إلى تجاوز ما أصابنا فيه من تعثر.

إن الناجحين هم القادرون على أن يواصلوا التقدم دون جلد دائم للذات، والدق المنتظم على عثرات الطريق، وهو ما يحول دون الاستمتاع بالحاضر والتهيؤ للمستقبل، فالطريق إلى الاستمتاع بالحاضر، هو التعلم من الماضي دون الاستغراق فيه، وليس بوسع أحد منا أن يغير الماضي، غير أن التعلم من الماضي هو الطريق إلى صناعة الحاضر، عبر تفحص ما حدث فيه، وما يجب أن نقوم به الآن بشكل يختلف عما سبق، فمن الرعونة تجريب ما قد أثبتت التجربة فشله.

كما أن تصرف الفرد في وقت ما يكون بناء على ما كان يعلمه حينذاك، والآن، بعد معرفة المزيد، لا شك أن ما نقدم عليه من أفعال ستكون نتائجه أفضل، والشاهد، أنه في علم السياسة لا يتم تحليل الأحداث والقرارات التاريخية بمعزل عن الظروف التي أحاطت بها وإطارها الزمني، وإلا كانت النتائج غير صحيحة وخارج السياق.

إن الطريقة المثلى لكي يكون المستقبل أفضل، هي أن تكون لكل منا مساهمة إيجابية في صنعه، وهنا، أستلهم ما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من أن »المستقبل ليس فيه مكان للمترددين أو أصحاب العزائم اللينة، غير أنه ينتظر من يمد يده ليقتنص حظه منه برؤية ووعي ومعرفة«.

Email