التوافق الصيني الروسي وسيناريو عالم 1914

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حين نشبت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، في أوروبا التي كانت ساحة القتال الرئيسية، فإن الحرب الكونية الثالثة، في حال عدم تجنب وقوعها، ستندلع على الأغلب في منطقة آسيا - الهادئ. وقد وجد عدد من الباحثين والقادة السياسيين أوجه تشابه مذهلة بين ما حصل في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى..

وما نشهده حالياً في آسيا. فالوضع الأمني الراهن في منطقة آسيا ـ الهادئ، بكل ما يحتويه من تزاحم على مطالب السيادة، يشير إلى نشأة قومية في بلدان أقل عدداً وأكثر بروزاً، كما يدلّل على تنافس بين القوى العظمى يشبه إلى حدٍّ بعيد أوروبا القرن الماضي.

وتعتبر الحرب العالمية نوعاً خاصاً جداً من الصراع العسكري، يتسم بحدوث صدام بين تحالفين جبارين تسيّرهما قوى عظمى تملك تقريباً موارد استراتيجية متماثلة، بحيث لا يتاح لأي من الطرفين بسهولة وسرعة السيطرة على الآخر. فهل سنشهد اندلاع مثل هذه الحرب في منطقة آسيا - الهادئ؟

وتشكل الصين قوة عظمى ناشئة ذات طموحات متزايدة، تضعها في مسار صدامي مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، الدولة المهيمنة حالياً. ويشبه هذا الوضع كثيراً العداوة "الأنغلو - ألمانية"، التي هيأت لاندلاع الحرب العالمية الأولى. لكن، حتى لو أصبحت الصين..

كما هو متوقع على نطاق واسع، الاقتصاد الأول في العالم، ونجحت في سدّ الثغرة العسكرية مع الولايات المتحدة، فلن يكون هذا كافياً للتصدي لإحدى الصعوبات الحيوية التي تفرضها الهيمنة الأميركية. ذلك أن الصين لن تكون في مواجهة الولايات المتحدة وحسب، بل في وجه تكتّل تقوده أميركا ويضم كلاً من اليابان وكندا وأستراليا، والهند ربما، إضافة إلى بلدانٍ أخرى.

وتتحالف بكين حالياً مع حليف رسمي وحيد هو كوريا الشمالية، في حين يمكن النظر إلى باكستان على أنها حليف بفعل الأمر الواقع، ولو في وجه الهند على الأقل. ورغم أهمية هذين البلدين للصين، فبالكاد يمكن اعتبارهما ذوي نفع استراتيجي عظيم، ولا تزال الصين تفتقر إلى وجود حليف يُعتمد عليه كإحدى القوى العظمى الحقيقية.

ويؤدي قيام حلف مع موسكو، من دون شك، إلى شدّ عزيمة بكين. وتشكل موسكو صديقاً مقرباً من الصين يمدّها بالثقة حيال أمن حدودها الشمالية، كما يدفعها للاعتماد على موارد روسيا الطبيعية التي يعتبر الوصول إليها سهلاً. وهكذا تكون بكين أقل تعرضاً لعمليات الحصار البحري، الذي من المؤكد أن تلجأ إليه الولايات المتحدة وحلفاؤها من القوى البحرية، في حال حدوث أية مواجهة خطيرة. وفي حال دخلت بكين وموسكو في ائتلاف، يمكنهما السيطرة على آسيا الوسطى..

إضافة إلى منغوليا، وبالتالي عزل قلب أوراسيا عن أي قوى خارجية بشكل فعال. وقد تَظهر كذلك رابطة أوراسيا التي تذكّر، من خلال السيطرة على قلب القارة، بحلف دول المركز الذي تشكَّل في وسط أوروبا على يد إمبراطوريتي ألمانيا وهابسبورغ.

وكثيراً ما يميل الغرب بقوة للاستخفاف بإمكانية تشكيل ائتلاف صيني روسي، ويتم تصوير أي شراكة استراتيجية بين الدولتين على أنها "محور مصالح" مبني على أسس غير ثابتة. والمشكلة الأساسية في هذا التفكير، تكمن في أن روسيا تنظر إلى الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على أنه يشكل تهديداً أكبر من الذي تشكله الصين.

والحديث عن الشراكة الصينية الروسية بوصفها حلفاً قائماً، قد لا يكون دقيقاً بعد، إلا أن أواصر العلاقة بين البلدين تغدو حتماً أكثر متانة. والضغط الذي يمارسه الغرب لمعاقبة روسيا وعزلها، يدفع موسكو للتقرب من بكين، التي اتخذت موقف الحياد الإيجابي إزاء ما يقوم به الكرملين في أوكرانيا وسيطرته على القرم.

وشخصيتا القائدين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، ستوفر عاملاً أساسياً في اتخاذ القرار بشأن أي تحالف روسي صيني، فكلاهما رئيس تنفيذي أوتوقراطي، يستأثر بسلطات حصرية لاتخاذ القرارات بشأن السياسة الخارجية، وسيشكل الثنائي بوتين - بينغ قوة هائلة في مواجهة قادة الغرب المعاصرين وأدائهم السياسي الخارجي المخيب.

ويمر النظام الدولي بظرف دقيق في ظل وهن أحادية القطب الأميركية، وبروز معالم نظام جديد، ويدور السؤال المحوري حول ما إذا كان هذا النظام الناشئ سيكون متعدد الأقطاب ويشكل توازن قوة مرناً، أم أنه سيضم تحالفين متعاديين؟ ويتطلب اندلاع حرب عالمية وجود تحالفين جبارين، أحدهما موجود في الواقع منذ أكثر من 60 عاماً.

وولادة التكتل المعادي الآخر، الذي يضم الصين وروسيا، تعتمد بدرجة كبيرة على واشنطن نفسها. فإذا مضت أميركا في اتباع سياستها الحالية القاضية بالاحتواء المزدوج، ضد روسيا والصين، فسيكون من الصعب مقاومة إغراء تشكيل تحالف معادٍ للغرب.

وقد أدى اجتماع عدد من المكونات والعناصر إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في النهاية، إلا أن مرحلة الانفجار حلّت مع انقسام أوروبا إلى حلفين متواجهين. وإذا وقعنا مجدداً في فخ سياسة الأحلاف المتخاصمة، فقد لا تكون العواقب أقل مأساوية.

وقد يشكل اجتماع القوى الأوراسية مع استعارة بعض عناصر مؤتمر أوروبا للقرن التاسع عشر، إحدى الطرق الممكنة لتجنب وقوع كارثة عبر بناء نظام ثابت متعدد الأقطاب. يجسد الوفاق بين لاعبي أوراسيا الأقوى، وهم الولايات المتحدة والصين وروسيا، قاعدة مبدئية نحو بناء هيكل هندسي متعدد الجوانب يوجب اشتراك بقية الدول. ولا بدّ أن تلك المهمة في غاية الصعوبة، لكن شرف المحاولة يضمن على الأقل التعلم من التاريخ.

 

Email