مَنْ قتل الصبي محمداً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتاد سكان الحي على وجوده بينهم، يحمل كل صباح فوق جسده الصغير صندوقاً خشبياً يضع فيه الكعك ويبدأ يجول في أزقة الحي ينادي على بضاعته.. كان أهل الحي جميعهم يحبّونه، لأمانته ودماثة خلقه وأدبه الجمّ.. لم يسأله أحدهم عن حياته، وهو لم يتكلّم يوماً عنها.

إنه محمد بائع الكعك، الذي كان ينتهي من بيع كعكه ويعود إلى أمه المتكئة على عكازها، تستقبله بالدعاء وبمسحة حانية على رأسه تخفف عنه تعب ذلك اليوم: هل أنت تعِب يا حبيبي؟ اصبر يا ولدي فإن بعد الضيق الفرج.

لم يكن يشكو أبداً، كان دائماً عندما يعود يقبّل يدها واضعاً ما جمعه من مال قليل فيها، وينادي على إخوته الثلاثة الصغار ليصلّوا معاً صلاة العصر، أربعة أيتام وأمهم العاجزة يسكنون في غرفة واحدة.

كان محمد صغيراً في العاشرة من عمره، مصلياً باراً بأمه المريضة، نحيلاً يتحمّل برد الشتاء وحرّ الصيف دون تأفف، ليسدّ رمق إخوته.. توقظه أمه بحنان كل صباح ليصلي معها الفجر، ومن ثم يخرج ليشتري الكعك ويذهب إلى الحي لبيعه.

وفي يوم جمعة لن تنساه أبداً، أيقظته كعادتها وصلّيا الفجر معاً، واستعد للذهاب، ودّع أمّه وضمّها بشدّة إلى صدره الصغير، وقبّل رأسها وخرج وهي تدعو له، ولكنه عاد وقبّل إخوته النائمين. شعرت أمه حينها بشيء من الخوف، فهذه أول مرة تراه يودّع إخوته الصغار قبل أن يذهب.. استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وأمسكت كتاب الله كما في كل صباح وبدأت تقرأ فيه بخشوع ظاهر.

مرّت ساعة وهي تقرأ دون توقف، وفجأة دوّى صوت رهيب في الحي أيقظ صغارها مفزوعين، بدأ قلبها ينبض بسرعة، اتكأت على الحائط تبحث عن عكازيها وتشكو خطاها والخوف يأكل قلبها، بدأت تنادي، هدأ المكان، وبعد دقائق عدّة قرع الباب.. إنه صاحب المخبز الذي يشتري منه محمد الكعك، قال بحزن بالغ: لقد مات محمد يا أم محمد..

مات محمد في التفجير، قتلته الجماعة.. سقطت أمه على الأرض دون حراك، وبدأت وأولادها الصغار بالبكاء الشديد، وأخذت بالتضرّع إلى الله أن يصبّرها وأن يرحم فلذة كبدها.

لقد اهتزت لمقتله نفسها حزناً: من قتل ولدي؟ أين أنت يا محمد؟ أين أنت يا قرّة عيني؟ تنظر إلى صاحب المخبز الذي لم يكن قادراً على كفكفة دموعه حزناً: هل قلت إنهم مسلمون؟ نعم! فتقاطعه على الفور: لا، هذا غير صحيح، هؤلاء ليسوا مسلمين..

والله ما هذا بإسلام، إن من يقوم بمثل هذه الأعمال خارج تصنيف الإنسانية، فكيف يكون دين لمن ليس إنساناً؟ هؤلاء لا دين لهم، سفاحون شاربو دماء الأطفال! أي قلب هذا الذي يحمله من يستهين بأرواح الناس ودمائهم، مهما كانت أديانهم أو أعراقهم أو مذاهبهم أو جنسياتهم أو انتماءاتهم؟ أيدٍ آثمة وأنفس شريرة مجرمة تلك التي قتلتك يا ولدي الحبيب..

لقد ارتكبوا جريمة بحقك، فما ذنبك يا صغيري؟ ألم يحرّم الله إزهاق النفس البريئة؟ لقد دفع صغيري الحبيب بدمه الطاهر ثمن تطرّفهم وغلوّهم، وأي ذنب أعظم عند الله بعد الشرك به عزّ وجلّ، من قتل النفس التي حرّم إلا بالحق؟! لكنهم سيدفعون ثمن جرائمهم سخط الله والنار والعذاب الأليم..

لقد مرّ ابن عمر بنفرٍ قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرّقوا عنها، فقال ابن عمر «من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا»، وهي دجاجة! وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً».

إن معيار المسلم ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، أما هؤلاء فلا معيار محدّداً لهم، معاييرهم مصالحهم فقط، يمارسون شتى أنواع الانتهازية السياسية تحت غطاء الدّين الذي هو منهم براء، يجب أن نعي ويعي العالم كلّه أيضاً في هذه المرحلة الفارقة من التاريخ، أن ثمّة فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً بين دين الإسلام كدين سماوي منزل، وبين ممارسات من يدّعون الإسلام وأحكامهم، فديننا الحنيف يدعو إلى الصفح والمغفرة، وليس كثقافتهم التي تدعو إلى القتل والترهيب، وهي ليست من الدّين في شيء، لكنهم يُلبسونها رداء الدّين بدهائهم وتنظيمهم، ويفسرونها حسب أهوائهم.

نحن قوم، للأسف، فقدنا الاتصال بديننا الحقيقي السمح، بحيث أصبح هناك جهل عام بالإسلام وعقائده وأحكامه وتعاليمه، وأصبح بيننا وبين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلاء نصّبوا أنفسهم للحديث باسم الدّين، فأصبحت غالبية قنواتنا التلفزيونية والإذاعية وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، ملأى بأمثال هؤلاء «الدهاة»..

لقد غرّروا بنا وألصقوا بديننا الحنيف منذ زمن بعيد وهماً بأنهم وكلاء الله على الأرض حتى ظننا ذلك حقاً، بحكم أننا نميل كشعوب بسيطة إلى كل ما هو ديني، إلى تصديقهم بأنهم وكلاء الله، وما هم من عند الله، وتم استغلال هذا الأمر أبشع استغلال، وكانت نتائجه كارثية مقيتة.

من ينظر إلى الماضي بجهل وبطريقة خاطئة، سيرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضاً، وهم جعلوا كثيراً منا ينظرون عبر أفكارهم المغلوطة إلى الماضي بطريقة خاطئة، فأصبح حاضرنا مبنياً على خطأ، وسيكون مستقبلنا كذلك مبنياً على خطأ مضاعف.

نحن بأمسّ الحاجة الآن وقبل فوات الأوان إلى استرداد الدّين من أيدي هؤلاء، نحن بحاجة إلى إحياء العقل وإعمال الفكر، وإلى أن ننظر إلى ديننا ونريه للعالم على حقيقته، التي اختُطفت باسم هذا أو ذاك أو هذه الجماعة أو تلك، وكما قيل فإن الجهل قيعان مظلمة تسكنها الشياطين.

 

Email