مأساة تسليم مفاتيح غرناطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مكائد القصر ساعدت المسيحيين على تحقيق أغراضهم، في ما يتعلق باجتياح المدن التي يسيطر عليها ملوك الطوائف في الأندلس. ويقال إن عائشة، زوجة ملك غرناطة آنذاك، كانت مهددة بسبب ولع زوجها بفتاة مسيحية، فهربت مع ولدها أبي عبد الله، لتعود لاحقاً، بهدف خلع الملك، وتنصيب ابنها الشاب على العرش.

لكن، في عام 1483، وقبل أن ينصب أبو عبد الله ملكاً، نجح الإسبان في اعتقال هذا الشاب، وتسنت لهم فرصة دراسة عدوهم المستقبلي عن كثب، فاكتشفوا أنه كان عازماً بأي ثمن على محاولة ضمان بقاء المدينة، وقصره لنفسه وورثته، أكثر من الحرب.

وبعد أن أدركوا ذلك، فإن الإسبان الحاذقين كانوا قادرين على شق وحدة صفوف المسلمين. وفيما اتبعت الأغلبية عم أبي عبد الله الزغل، الذي أدرك أن الحرب مع المسيحيين أمر لا مفر منه، فإن عدداً كبيراً من المسلمين انضم إلى أبي عبد الله، وربطوا مصيرهم بمصيره، اعتقاداً منهم أنه قادر على إنقاذ غرناطة بالمفاوضات والمساومة.

وعندما هزم الزغل في نهاية المطاف واستسلم، شرع المسيحيون في بناء مخيم لمحاصرة المدينة على بعد بضعة أميال من غرناطة، أطلقوا عليه تسمية "سانتا في".

وفي الثاني من يناير عام 1492، سلم أبو عبد الله غرناطة، وكما يقول أحد المؤرخين: "دخل الصليب غرناطة من بوابة، بينما خرج القرآن من بوابة أخرى، ودوت الترانيم المسيحية داخل الجدران، التي كانت ما زالت تردد صدى الله أكبر".

وقد وصف المؤرخ وليام هيكلينغ برسكوت، عملية الاستسلام، التي توضحها الصورة الشهيرة للرسام "فرانشيسكو براديلا"، بشكل لاذع، وذلك في كتابه الغزير بعنوان "حكم فرديناند وإيزابيل الكاثوليكي"، فمع تقدم العرب من ملك إسبانيا، كان على أبي عبد الله أن يلقي بنفسه من فوق صهوة جواده، ويرفع يده تحية له.

لكن فرديناند منعه على عجل، وأحاطه بكل مؤشرات التعاطف والاعتبار، ثم قام أبو عبد الله بتسليم مفاتيح مجمع الحمراء إليه، قائلاً له: "هذه لك أيها الملك، وفقاً لمشيئة الله، فاستخدم انتصارك برأفة واعتدال".

وصل الملك العربي، الذي كان يعبر طريق ألبوكسارس (سلسلة جبال جنوبي غرناطة)، إلى الربوة الصخرية الأخيرة، التي تطل على غرناطة.

فحص حصانه، وفيما كانت عيناه تجولان للمرة الأخيرة في هذا المشهد من رحيل عظمته، كاد قلبه ينفطر، وأجهش بالبكاء، فقالت له والدته الأكثر رجولة منه: "حسناً تفعل، ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال!".

والمكان حيث كبح جماح فرسه، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على غرناطة، يمكن العثور عليه في الدرب المؤدي مباشرة جنوباً إلى ساحل موتريل، والمعروف باسم "تنهيدة العربي الأخيرة".

وأبو عبد الله ذهب إلى المنفى في شمال أفريقيا، حيث توفي وهو يقاتل في خدمة أحد أقربائه. ويقتطف برسكوت أقوالاً لمؤرخ عربي يعلق على هذه المناسبة بكلمات لا ترحم: "بائس من يفقد حياته في سبيل قضية غيره، فيما لم يجرؤ على الموت في سبيل قضيته".

ربما كان المؤرخون ووالدة أبي عبد الله غير منصفين في حقه، ذلك أنه لم تكن هناك وسيلة يمكن أن تقاوم غرناطة، من خلالها بنجاح حصار المسيحيين. وبوضعه شروطاً وذهابه شخصياً إلى المنفى، حال أبو عبد الله دون إراقة الكثير من الدماء. وعلى الرغم من أن أمراً كهذا لم يكن في خاطره، فإنه حافظ أيضاً على عجائب مجمع الحمراء لقرون في ما بعد.

لو أخذت غرناطة بالقتال، لكان هناك القليل من الشك حول صب المسيحيين جام غضبهم على المجمع، الذي كان فخر أعدائهم، وكما يشير الوضع، فإن أبا عبد الله تمكن من وضع شروط لم تكن غير مؤاتيه، ولو تم الالتزام بها لسمحت للمسيحيين والمسلمين بالاستمرار في العيش جنباً إلى جنب تحت الهيمنة المسيحية، بالطريقة نفسها كما كان الوضع عندما كانت للإسلام اليد الطولى.

وفيما يصور المؤرخ برسكوت الملك فرديناند بأنه عامل أبا عبد الله بالتعاطف والتقدير، فإن مصادر عربية لم تكن متوفرة في ذاك الوقت، كتبت عن تاريخ أبي عبد الله، وكشفت عن أن هذا الملك المسلم التعس عومل بوقاحة وازدراء.

وهذه الحقيقة تنبئ بالطريقة، التي سرعان ما سيقوم فيها المسيحيون بخرق الشروط التي اتفقوا عليها مع أبي عبد الله، التي ستؤدي إلى الفصل القصير والدموي الأخير، في قصة وجود الإسلام في إسبانيا، وهي القصة غير المنشورة، وغير المعروفة كثيراً، والتي سنرويها بشكل موجز لاحقاً.

Email