مارك لينز.. خدمات جليلة للأدب العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ الأمر بالنسبة لي، عندما قررت مغادرة مصر والمضي للإقامة في إسبانيا. وبينما كنت في مدريد، تلقيت دعوة من الجامعة الأميركية في القاهرة، للذهاب إلى هناك وإلقاء محاضرة. وقد أسعدني أن أتلقى مثل هذه الدعوة، واستمتعت بالوقت الذي قضيته هناك. وأبهجني أن أجد أنه في نهاية الوقت المتاح لي هناك، وجه إلي سؤال عما إذا كنت أريد مواصلة البقاء والعمل مستشاراً للشخص الذي كان يدير قسم النشر الصغير في الجامعة، وبادرت إلى الموافقة بمزيد من السعادة.

ولكنني وجدت أن رئيسي في العمل لم يكن شخصاً يسهل التعامل معه، ولم يبد قط اهتماماً بأي اقتراحات عرضتها عليه، كما كانت لديه عادة غير حميدة، تتمثل في إعطاء الانطباع بأنني كنت على نحو ما أتجسس عليه، وعندما كنت أدخل مكتبه كان يبادر مسرعاً إلى لملمة أوراقه الموضوعة أمامه وقلبها رأساً على عقب. وفي النهاية تخلصت الجامعة مني وحرمتني من الشقة التي مثلت الشكل الوحيد للمدفوعات التي قدمت لي مقابل خدماتي.

وفي وقت لاحق، تم إبلاغي بأنه قد تم تعيين مدير جديد للنشر، وطلب مني العمل مستشاراً له. وقد وافقت في التو، وأسعدني أن الشخص المعين حديثاً بدا لي النقيض الكامل لسلفه. وقد كان بدوره أميركياً، ولكنه من أصل ألماني، وفي الحقيقة سمعته في وقت لاحق يتحدث الألمانية كما لو كانت لغته الأم. وقد كانت كذلك بالفعل، غير أن إنجليزيته كانت بلا شائبة، كما يتوقع المرء من أميركي أمضى حياته العملية كلها في العمل في النشر في الولايات المتحدة.

وجدت نفسي على الدوام موضع ترحيب في مكتبه، ودعيت دوماً لإسداء النصح إليه فيما يتعلق بالعمل الذي ينبغي لمكتبه أن يركز عليه. ورغم أنه لم يكن على معرفة باللغة العربية، إلا أنه وافقني على أن المهمة الأكثر فائدة للجامعة هي محاولة التعريف بالأدب العربي خارج العالم العربي، بترجمة أفضل أعمال هذا الأدب إلى اللغة الإنجليزية. وأمضينا وقتاً في مناقشة الصعوبات التي تكتنف نشر ترجمات للروايات العربية، ومجلدات من القصص القصيرة العربية إلى الإنجليزية.

وأتذكر أنه كان يصغي إلي بانتباه عندما حدثته عن أبرز الكتاب المصريين في ذلك الوقت، وأشرت بصفة خاصة إلى أسماء من قبيل توفيق الحكيم، يحيى حقي، يوسف إدريس وبالطبع نجيب محفوظ.

وأعربت عن اعتقادي بأنهم في أعمالهم ينافسون أفضل الكتاب في أوروبا وأميركا، ثم ناقشتا بعد ذلك الموضوع المعقد المتعلق بكيفية العثور على مترجمين محترفين لترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية، وكيف ينبغي أن تدفع لهم مكافآتهم. وأبلغته أنه ما من شيء يؤثر إيجاباً في سمعة كاتب عربي قدر ترجمة أعماله إلى الإنجليزية، وأن بعض الكتاب على استعداد للتخلي عن جميع حقوقهم في الملكية الفكرية، لمن ينجز ترجمة أحد كتبهم ويفلح في نشره باللغة الإنجليزية.

وهكذا، جاء اليوم الذي أشرت فيه خلال الحديث مع مارك لينز، إلى أن إطلاق جائزة باسم نجيب محفوظ سوف يكون خدمة للأدب العربي الحديث والجامعة الأميركية في القاهرة معاً. فسألني مارك: كم يتعين علينا أن ندفع لنجيب محفوظ مقابل سماحه باستخدام اسمه في مثل هذه الجائزة؟ أتذكر أنني ضحكت كثيراً، وأشرت إلى أن المال هو آخر شيء يهتم به نجيب محفوظ، وقلت له: "لم لا نمضي لمقابلته وتبين رد فعله؟".

وهكذا فقد اتصلت هاتفياً بنجيب محفوظ، فسألته عما إذا كان بمقدوري زيارته بصحبة مدير النشر في الجامعة الأميركية في القاهرة، وانطلقت أنا ومارك بسيارته إلى شقة نجيب محفوظ، وعندما اقترحت عليه ذلك، أبدى رد الفعل الذي توقعته.. وهكذا رأت جائزة نجيب محفوظ النور.

وتتألف الجائزة من مبلغ مالي بسيط، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن الفائز بها سيترجم كتابه الذي منح الجائزة عنه إلى اللغة الإنجليزية، وسيتم نشره وتسويقه على امتداد العالم. ولهذا السبب فإن الكتاب الفائز بالجائزة يقرأ على امتداد العالم الناطق بالإنجليزية.

وبسبب حركة الترجمة هذه من العربية إلى الإنجليزية، أصبح نجيب محفوظ يحظى بمزيد من التقدير، ويقرأ بشكل مكثف خارج العالم العربي. وقد دهش وابتهج أيضاً عندما تم إبلاغه ذات يوم بأنه قد نال جائزة نوبل للأدب، وحتى اليوم لا يزال الأديب العربي الوحيد الذي نال هذه الجائزة الأدبية الأكثر تميزاً في العالم.

لهذا، ولكثير غيره أيضاً، خدم الراحل مارك لينز الأدب العربي بطريقة فريدة.. لسوف يفتقده كثيراً كل أولئك الذين نالوا شرف معرفته والعمل معه.

Email