من أين يأتي الإلهام؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدتُ محاضرة قصيرة قدمتها الروائية (إليزابيث جلبرت) في فعالية (تِد TED) حيث تحدثت عن نجاح روايتها (طعام، صلاة، حُب) وكيف أن الناس تسألها إن كانت خائفة من أنها لن تستطيع أن تكتب شيئا أفضل في المستقبل أم لا! وقد يكون السؤال، في رأيي، منطقيا، حيث أن بعض النجاحات الخارقة تبدو غالبا الأخيرة، ولذلك فإنها تخيف أصحابها كثيرا. ولكي تجيب إليزابيث عن تلك التساؤلات بحثت في التاريخ عن مصادر الإلهام، ووجدت أن الأفكار الإنسانية التي برزت في مرحلة النهضة الأوروبية قد ركزت على فكرة أن الإنسان هو مركز الكون والأشياء كلها. وأظنها تقصد مساهمة (الإنسانيون) الذين برزوا في القرن الخامس عشر في أوروبا وكانوا ينادون بإعطاء الإنسان قيمته الحقيقية القائمة على حقه في التفكير والإبداع، حيث جردته كنيسة عصور الظلام من كينونته وجعلته تابعا لها. ثم مساهمة (الوجوديون) الذين أسس مذهبهم في النصف الأول من القرن العشرين الأديب الفرنسي (جان بول سارتر) الذي فاز بجائزة نوبل للآداب إلا أنه رفض استلامها.

وكان وجه الشبه بين الإنسانيين والوجوديين أنهم جعلوا من الإنسان غاية مطلقة، وافترضوا بأنه مخزن الطاقات والإلهام والحكمة. إلا أن إليزابيث تعتقد أن في ذلك ظلم للإنسان، وخصوصا عندما يفقد القدرة فجأة على الإبداع، فيظن بأن هناك خللا به هو. وتتساءل: ما ذنبها لتصل إلى قمة إبداعها وهي ما زالت في سن الأربعين! وإذا كانت حقاً قد فقدت القدرة على إنتاج أعمال أفضل في المستقبل، فماذا ستفعل في العقود الثلاثة القادمة في حياتها!

إلا أنها وجدت فكرة غريبة في فلسفات الإغريق واليونان قديما؛ حيث كانوا يعتقدون بأن الإلهام أو الحكمة تُمنح للإنسان ولا تصدر منه، أي أنها تأتي من الخارج ولا تنبع من الداخل. ففي حالات كثيرة يشعر المرء بأنه قادر الآن وفي لحظة ما على القيام بعمل إبداعي، كالكتابة أو الرسم، دون أن يعرف سببا لذلك.

وأظنني أتفق معها كثيرا، فلقد قرأتُ عن بعض الكُتاب أنهم يسمعون صوتا يملي عليهم ما يكتبون، وقال البعض بأن الإلهام كالمطر يهطل عليهم فجأة، وقال أحدهم إن الحكمة تقبع في السماء؛ ولذلك فإنه يقضي ساعات طوال يحدّق عاليا في انتظارها لكي تنزل.

وزرتُ قبل عدة سنوات مع مجموعة من الأصدقاء الكاتبة الإنجليزية (دوريس ليسينغ) الحائزة على جائزة نوبل للآداب، في بيتها الصغير بلندن. وعندما جلسنا سألها أحدنا كيف تأتيها فكرة الكتاب فقالت: "أحياناً يأتي الكتاب من خلال جملة عابرة، وأحياناً يأخذ عشر سنوات حتى يصل. لدي كتاب اسمه الزيجات بين المناطق الثالثة والرابعة والخامسة، كنت أفكر فيه لعشر سنوات. أما كتاب الإرهاب الطيب فقد أتاني خلال محادثة هاتفية".

وأتساءل الآن: هل نمط حياتنا يمنحنا الفرصة لنستشعر الحكمة؟ أنا على يقين بأن إليزابيث ودوريس وغيرهما من المبدعين قد أدركوا أن انغماسهم في نمط حياتنا السريعة والمربكة اليوم هو ألد أعداء الحكمة، ولو أنهم توقفوا عند كل خبر ظهر في الأخبار وتفاعلوا مع كل أحداث العالم، كما يفعل كثير منا، فإنهم سيفقدون الصلة بينهم وبين الحكمة.

إن الإلهام لا يهبط إلا على من يستحقه، ولا يستحقه إلا من هيأ نفسه له؛ بالصبر، وبالتركيز وبالابتعاد عن محاولة التحول إلى قناة إخبارية تعرف كل ما يصير في العالم. سألت أحد الذين أتابعهم على تويتر لماذا أَقَلّ في كتاباته التي كُنتُ أستمتع بها كثيرا، فقال إن قلبه لم يعد قادرا على الإبداع في عالم مليء بالإحباط والسلبية! فلكثرة ما نتابع الأخبار والمصائب حول العالم أصبنا بشلل عاطفي وضياع ذهني، ولم تعد نفوسنا مهيأة للتفكر في الإنسان والكون والوجود والمعرفة والجمال والحب وكل الأشياء التي كانت تلهمنا.

كنت أتساءل عن مصدر الإلهام وأنا أكتب روايتي الأولى، فاكتشفتُ بعد أن انتهيت أنه يملأ المكان وينتشي في الأجواء، ولكننا نوصد الأبواب دونه لننكبَّ على أخبار القتل والاستفتاءات والفيضانات.

اسأل نفسك الآن: متى كانت آخر مرة شاهدت فيها قناة (ناشيونال جيوغرافيك) مثلاً، ليوم كامل؟ ومتى شعرت بأن متابعة برنامج عن الفضاء أو التكنولوجيا أهم من متابعة نشرات الأخبار؟

وإذا كنت تظن بأن نشرات الأخبار ستفيدك أكثر من البرامج الوثائقية فانظر إلى شعراتك البيض وستدرك بأنها تباغتك كل يوم بازدياد حتى وأنت لم تتخط عتبات الثلاثين لسبب واحد فقط: وهو أنك لست مستعداً للإلهام، أو ربما، لست في حاجة إليه.

 

Email