اليونسكو وموت اللغة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدثت أخبار من مصادر مختلفة بأن اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة)، تقول إن اللغة العربية ستموت، بعضها نسبها إلى "تقرير" لليونسكو وبعضها قال "كلمة" للأمين العام للمنظمة، ولكنها اتفقت على أن اليونسكو تقول إن 50٪ من 7 آلاف لغة ستموت في هذا القرن "من بينها اللغة العربية".

ورغم أني لم أستغرب وجهة النظر المنقولة التي زعموا فيها أن العربية ستموت، بل إني أتوقع ذلك إذا لم تُبذل الجهود لمقاومته، إلا أني تحريت عن الموضوع فوجدت ثلاث إشارات مباشرة؛ الأولى مقالة في صحيفة عربية بتاريخ 28/2/2009، والثانية محاضرة نـُشر خبر عنها بتواريخ مختلفة أولها كان 27/10/2009 عن وضع اللغة العربية، أشار المحاضر فيها إلى التقرير المنسوب لليونسكو، والثالثة لقاء مع شخصيات أكاديمية تربوية أجرته صحيفة عربية أخرى، كان دافعه تقرير اليونسكو المزعوم.

حاولت البحث في وثائق اليونسكو فلم أجد شيئا عن موت اللغة العربية، فاتصلت بقسم الوثائق في المنظمة فقدموا لي كل المساعدة الضرورية لتحري الموضوع.

وما وجدته هو أن المدير العام لليونسكو قال في كلمة بمناسبة السنة العالمية للغات 2008: "بيد أن أكثر من 50٪ من اللغات المحكية حالياً في العالم والبالغ عددها 7000 لغة، معرضة للاندثار في غضون بضعة أجيال". وهذه هي الترجمة الرسمية للكلمة التي اطلعت على نصها الأصلي أيضا. ينبغي الانتباه إلى صفة "المحكية"، أي أنها لغات غير مكتوبة وليس لها نظام ألفبائي، وهذا لا ينطبق على العربية.

ولم تتضمن الكلمة أي ذكر للغة العربية، فمن أين أتى أصحاب المقالات والمحاضرات بهذا الخبر؟

من الجدير بالذكر أن العربية التي تستخدمها بعض المواقع التي نشرت الخبر والتي تشعر بالحماسة والغيرة على العربية، لغة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية. ولكن المفرح أن الكثير من ردود القراء على الخبر تتصف بحب العربية والدفاع عنها، ولكنها تتضمن كلاما غير عملي، ولا يستند إلى أي دلائل علمية على أن العربية لن تموت.

فما هي الدلائل على احتمال موت العربية مستقبلا؟ تزاحم العربية في حياتنا لهجاتها المحلية من جهة، واللغات الأجنبية من جهة أخرى، فوضع اللغة العربية في سياق التعامل اليومي لدى متكلميها وضع قلق متراجع.

فاللغات الأجنبية أخذت وتأخذ موقع الصدارة في تعليم الأجيال وتوظيفها. وبينما أصبحت اللغات الأجنبية لغة التدريس في التعليم العالي فأخذت مكان العربية، فإنها صارت كذلك لغة التدريس في التعليم الثانوي والابتدائي الخاص، أو على أقل تقدير أخذت مكان الصدارة في التعليم على حساب العربية. وبذلك تترسخ اللغات الأجنبية في أذهان الشباب، باعتبارها الوسيلة اللغوية الأولى للتعبير عن الذات والتعامل مع العالم من حولهم.

وحتى في المؤسسات التربوية التي تكون فيها لغة التدريس هي العربية، فإن مستوى كفاءة المعلمين والمدرسين، وخاصة الذين يدرّسون اللغة العربية أنفسهم، لا يكون في العادة بمستوى مناسب في تخصصهم. ومن جهة أخرى، يطغى على المنهاج التوجه نحو التلقين وليس التطبيق العملي للغة، وبذلك يكمل الطالب دراسته ومقدرته في العربية متواضعة جدا، لا تناسب المرحلة التالية في حياته من دراسة أو عمل.

ويكون تعامل الناس مع الفصحى أثناء سني الدراسة وبعدها، بالدرجة الأولى من خلال وسائل الإعلام وقراءة الكتب. وبما أن القراءة عموما عنصر ثانوي جدا أو معدوم في حياة الغالبية العظمى من الناس، فإن تعلم العربية لدينا ينصقل ويتطور بقدر ما نحتك بوسائل الإعلام.

إلا أن عربية وسائل الإعلام يشوبها الكثير من الشوائب، فتكون لأساليبها بصمة على عربية الناس فيصبح ما لديهم من حصيلة لغوية هو في الواقع ما تستخدمه الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون. وليست الكتب بمنأى عن الأساليب غير الفصيحة، والذين يقرأون تتسرب إلى عربيتهم تلك الأساليب أيضا.

وبذلك بدأت الفصحى تنحسر من الدوائر التي كانت قاصرة عليها، وهي سياقات التواصل ذات التعامل الرسمي بالمعنى الاجتماعي للتعامل اللغوي.

وإذا كانت في وسائل الإعلام المرئية والسمعية فسحة للعامية، لأن التواصل فيها شفاهي في المقام الأول، فإن العامية بدأت تـُستخدم في الصحافة المكتوبة والروايات والقصص القصيرة، إذ يكتب بعض الصحفيين وبعض الكتاب نصوصهم بها لسبب أو لآخر. وهذا ما يجعل العامية تتخذ الشكل المكتوب على نطاق واسع في النشاط الاجتماعي، مما يجعل الشكل الكتابي لها يتخذ قواعد له، وبذلك تصبح لغة قائمة بذاتها.

وما حوّل عربية الأمس إلى عربية اليوم، هو ما سيحول عربية اليوم إلى عربية غريبة غدا. فإذا لم تندثر العربية الفصيحة لتحل محلها لهجاتها، مثلما ماتت اللغة اللاتينية وحلت محلها لهجاتها العامية التي صارت الآن لغات وطنية مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية، فإنها في أقل تقدير ستتحول إلى لغة تختلف تماما عما نكتبه اليوم، مثلما تختلف عربية اليوم عما كانت عليه عربية الأمس.

فضعف التعليم والتدقيق اللغوي والإهمال عموما لمكانة اللغة وأهميتها، وما ينتج عن ذلك من استخدام للمفردات العامية والتراكيب المستوردة وركاكة الأسلوب والتهجئة الخاطئة، سيدفع إلى اندثار العربية.

إن المبادرات الوطنية التي تهدف إلى الرقي باللغة العربية، هي الوحيدة القادرة على الحد من التأثيرات السلبية عليها، وهي عادة ما تكون مجموعة من السياسات الاستراتيجية، ضمن مفهوم التخطيط اللغوي الذي يدعم التعليم ويساعد على تعزيز كل ما من شأنه إعلاء شأن اللغة، وجعلها جزءا يوميا من حياة الناس.

 

Email