العربية.. لغة العلم والابتكار

ت + ت - الحجم الطبيعي

نقف اليوم مع المبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لتمكين اللغة العربية والاستفادة من إشعاع نورها الغني العامر بقدرة عجيبة على الاستيعاب برحابة لمستجدات العصر كافة، مهما كانت أدواتها.

وينص ميثاق اللغة العربية ـ وهو المحدد لملامح تلك المبادرة الواعية ـ في مادته الخامسة: على أن اللغة العربية عنصر أساسي في التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة، ويتوجب على وزارة التربية والتعليم وكافة الهيئات المعنية في الدولة، أن تبذل قصارى جهدها لتطوير أساليب ومهارات تعلم العربية، وبناء قدرات مدرسي العربية في المدارس الحكومية والخاصة في الدولة، بما يتطابق مع أعلى المعايير العالمية، كما توجه الحكومة الجهات المعنية في الدولة لضمان التزام المدارس الخاصة بالتركيز على اللغة العربية، لتمكين الطلاب في دولة الإمارات العربية المتحدة والناطقين بالعربية من امتلاك أدواتهم.

ومن الجلي أن هذا البند يرسم ملمحا واضحا على طريق تأكيد سيادة اللغة العربية في الدولة، بدءا من المراحل الأولى من حياة الإنسان، وهي المرحلة التي يستقيم فيها اللسان، فيبقى على ذلك في مرحلة هي من أهم المراحل العمرية التي تتكون فيها شخصية الفرد. وهنا أطرح تساؤلا، لدي قناعات مطلقة بشأنه: هل تصلح اللغة العربية لأن تكون لغة للعلم بمعايير منطقية بحتة؟ وهل هي قادرة على أن تلاحق هذا السيل من المعارف في عصر المعلومات؟

إن المعضلة الرئيسية التي تعاني منها اللغة العربية، لا تتمثل في هذا الفيض الذي يواجهها بين الحين والآخر من المصطلحات الأجنبية التي تتطلب أن تستوعبها وتخرج من جعبتها ما يوازنها، ولكن المشكلة في ذلك الانهزام النفسي لأبنائها واستسلامهم التام لغيرها من اللغات التي يعيشون أسرى لها، بحيث تتكون أجيال متتالية تتربى على أيدي هؤلاء ليُعَلِّموا بدورهم مَن بعدهم، فينشأ جيل من الباحثين لديهم قناعات راسخة بأن اللغة العربية تغرّد في واد، والعلم والتكنولوجيا في واد آخر، على الرغم من أن كل التجارب الحياتية ونماذج الدول التي حققت نهضة في بلادها وأحرزت نصيبا وافرا من التقدم، تؤكد أن أي أمة لن تتقدم إلا من خلال لغتها الأم.

يحدث ذلك في فرنسا والصين وروسيا وتركيا، وحتى الدولة العبرية التي جمعت أشتات البشر لم ترتض غير العبرية بديلا، بعد أن كانت في غياهب النسيان. ولا شك أن هذه القاعدة تنسحب على أمتنا العربية، التي لن يكتمل لأبنائها إبداع حقيقي إلا بلغتهم الأم. وكلمة الأم هنا تعني تلك العلاقة القدرية التي تربط الإنسان بمصدر وجوده، وأنه لا يملك اختيارها، ولا يمكنه التنكر لها أو البحث عن أخرى وإحلالها بديلا لها.

كما أن مسألة اللغة الأم لا تعني انحيازا عاطفيا للغة وحسب، بل تعني الاتساق الكامل مع الذات؛ فاللغة ليست وسيلة للتخاطب وحسب، بل أداة للتفكير والإبداع في مداه الأقصى، الأمر الذي لا تدانيها فيه أية لغة أخرى مهما أجادها الفرد؛ إذ يظل عاجزا عن الوصول إلى منتهاها، وهو العائق الأكبر لتحقيق أداء أفضل.

وفي التعليم على وجه الخصوص، يؤكد علماء النفس واللغة أن استيعاب الطالب للغة غير لغته، يظل في كل الأحوال أقل من لغته الأم، مهما حاول أن يتقن غيرها من اللغات، ويلقي ذلك بظلاله على أدائه في ما يتخصص فيه.

وهنا أذكر ما أورده د. سمر روحي الفيصل في كتابه «الفصيحة والعامية: الازدواجية والتحديات المعادية»، حول تجربة محمد علي باشا في مصر، حين أسس أول مدرسة طبية في الوطن العربي عام 1827، بعون من أنطون كلوت بك، الذي نص في مذكراته على أن التعليم بلغة أجنبية يقلل من نجاحه؛ إذ من الضروري تعليم إحدى اللغات للطلاب، ولذلك اقترح ترجمة المحاضرات التي يلقيها الأطباء الأجانب إلى اللغة العربية. واستجاب محمد علي لاقتراحه، وألّف لجانا للترجمة عاونها علماء من الأزهر.

وقد أثبت طلاب الطب تفوقهم، مما سمح لهم بإكمال دراساتهم العليا في الخارج، وعادوا ليسهموا في ترسيخ تعليم الطب في بلدهم، بعد أن قدّموا للعلوم الطبية زادا وافرا من المصطلحات. وكانت تلك البذرة التي تم التأسيس عليها لإنشاء مدرسة القصر العيني الطبية عام 1837، وتقديم كتب طبية مترجمة بدقة، والشروع في البحث العلمي والتأليف الطبي باللغة العربية.

ولكن الاحتلال الإنجليزي عام 1882 أفسد وأجهض تلك التجربة، استنادا إلى مسوغات مغايرة لواقع التعليم الطبي، وأوصي باستعمال اللغتين العربية والإنجليزية معا، ثم ألغيت العربية لتسود الإنجليزية، ويتم إجهاض تجربة كانت كفيلة بتغيير خارطة التعليم والبحث العلمي في العالم العربي.

الشاهد أن اللغة العربية لم تكن يوما عاجزة عن الوفاء بمتطلبات الحضارة والمدنية، ولكن تخاذل أبنائها وحقد أعدائها وكيدهم لها، كانا العاملين الفاعلين وراء إزاحتها عن العلوم التطبيقية، وقصرها على العلوم النظرية، بحجج لا تستند إلى حقيقة أو ترقى إلى يقين.

ثم إنني أتساءل، بعد هذه العقود الطويلة من هجر العربية في التعليم والبحث العلمي إلى حد كبير: ما هي المحصلة النهائية على أرض الواقع؟ وما هو التقدم الذي أحدثه العرب في المجالات المختلفة؟ وما هي إسهاماتهم العلمية؟ أعتقد أنها لا تعدو شذرات متناثرة.

إن المبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لتمكين اللغة العربية في حياتنا بكافة صورها، تتخطى في تقديري حدود الطرح، ولكن مغزاها الحقيقي هو الدعوة لاستنفار كافة طاقاتنا، كل في مجاله، سواء أهل اللغة والاختصاص، أو رجال المجامع اللغوية في العالم العربي بأسره، المعنية بالترجمة والتعريب والدخيل والنحت والتوسع الدلالي، واقترابه من قضايا اللغة الحقيقية، دون الاستغراق في قضايا جدلية تهدر الوقت والجهد، وأن تستكمل السلسلة حلقاتها عبر قيام الجامعات بدورها، من خلال طرح ذلك على منتسبيها أساتذة وطلاب علم؛ لتقوم بالدور المنوط بها كرأس الحربة في عملية التطور والتنمية بفروعها المختلفة.

وهو ما نص عليه الميثاق المؤطر لتلك المبادرة في مادته الثامنة، حين نصَّ على مساهمة مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي في دولة الإمارات العربية المتحدة، في النهوض باللغة العربية، من خلال إغنائها بالمصطلحات العلمية والتقنية، كما تعمل على تشجيع الدراسات والبحوث اللغوية العربية؛ كي تستعيد اللغة دورها التاريخي لغة للإبداع والابتكار.. فهل من مشمّر؟

 

Email