مبادرة وميثاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن اللغة العربية أداة رئيسة لتعزيز هويتنا الوطنية لدى الأجيال القادمة؛ لأنها المعبرة عن قيمنا وثقافتنا وتميزنا التاريخي. وإن الحفاظ على لغتنا، التي حافظت على أصالتها أكثر من ألفي عام، قيمة إسلامية وفريضة وطنية وترسيخ لهويتنا وجذورها الوطنية... هذه الكلمات الواضحة والقاطعة التي أكدها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عند إطلاقه مجموعة من المبادرات من خلال "مجلس محمد بن راشد للسياسات"، تضاهي في وضوحها وضوح رؤية الإمارات 2021م.

هذه الرؤية تؤكد أن الإمارات تعرف طريقها دون التباس أو تردد، وأنها - وهي ترنو ببصرها إلى المستقبل وتسابق الزمن، لا للحاق بركب التميز الذي أصبح من ملامح الحياة في دولتنا وحسب، بل لتكون في مقدمته - لن تدير ظهرها لأمتها وميراثها الثقافي يوما، ولن تغير ثوابتها وتاريخها أبدا.

كما أن هذه الرؤية الحصيفة حالة خاصة جدا حفظت لانطلاقتنا الحضارية توازنها، وتضمن لها رشدها واستمرار نجاحاتها.

 وهنا أود أن أتوقف قليلا عند بعض العلامات، ومنها: أن التاريخ علمنا، وهو خير معلم لمن يتدبر سير أحداثه وعظاته، حين أشار إلى تجارب بعض الدول التي حاولت التخلص من ميراثها الثقافي والحضاري، واللغة أحد أهم أوعيته وملامحه، وأدارت الظهر لماضيها وهي في طريقها إلى الأخذ بأسباب التقدم، ظنا منها أنها بذلك تتخلص من عوائق تحول بينها وبين ما تصبو إليه، فكانت النتيجة أن ارتدت على عقبيها منتكسة خالية الوفاض إلا من ندم على ما فقدت؛ لأن حركتها كانت أشبه ما تكون بحركة بندول الساعة لا ارتكاز لها ولا ثبات، وأصاب مواطنيها الاغتراب داخل النفس وعلى أرض الوطن، وما أصعب الاغتراب بين الأهل، وحدثت لها هزات حضارية وقيمية كبيرة لم تتعاف منها إلا بالعودة إلى أصولها الصافية المتينة.

ولأن أخطر ما يتهدد الأمم ويجر النكسات على الأوطان والشعوب ويبدد طاقتها البشرية والمادية، هو غياب الرؤية أو ضبابيتها والتباسها، فإن وضوح الرؤية هو الخطوة الأولى على طريق النجاح، وأولى بشريات التوفيق؛ فلا تميز بلا أهداف واضحة وتحديد مدارج الوصول إليها، مهما بذل من جهد، كالذي يسير على غير هدى وبصيرة من أمره.

وفي رؤية الإمارات 2021م، لم يكن الحديث عن أهمية اللغة العربية ذا شجون لأننا نعتز به ونقدره لأننا نحب لغتنا وحسب، ولكنه وضع آليات محددة تمثل سياجا للحفاظ عليها، عبر ميثاق يؤطرها، مبينا أنها أهم عناصر الهوية الإسلامية العربية، واللبنة الأساسية لصرح هويتنا الوطنية.

كما أن تشكيل مجلس استشاري معني باللغة العربية وقضاياها يترأسه وزير الثقافة، لهو رسالة جلية مفادها أن الحفاظ على اللغة العربية وتعزيز مكانتها، هو سياسة دولة معنية بإحياء اللغة العربية، لغة للعلم والمعرفة وإبراز المبدعين من أصحابها.

وهنا أؤكد أن جانبا كبيرا من تدعيم مكانة اللغة العربية في الداخل والخارج، هو جزء أصيل من نهضة الأمة الحضارية والعلمية، فعندما تكون اللغة بحق لغة نابضة ينتج أصحابها فكرا وثقافة وعلما، سيلتف أبناؤها حولها وستتهافت عليها الأمم شرقا وغربا، ومن أراد أن يعرف حال أمة ما عليه إلا أن يتفحص حال لغتها؛ فهي صورتها التي ترقى برقيِّها وتتراجع بتراجعها. وآية ذلك حين كان أهل الغرب يتعلمون اللغة العربية، لتحصيل العلم في مدارس الأندلس وقلاعها العلمية التي ما زالت قواميسهم اللغوية خير شاهد على ما تزخر به من كلمات ذات أصل عربي خالص، ما زالت ترددها ألسنتهم.

إن "مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد" لتعزيز مكانة اللغة العربية، هي جرس إنذار لكل أبناء لغة الضاد من دارسين ومعنيين ومتخصصين، ينبه إلى أن مكانة لغتهم تحتاج إلى وقفة تأمل لنعيد الأمور إلى نصابها؛ لأنه لا يمكن لأمة أن تدعي حضارة وتاريخا ومكانة وهي تتنازل عن لغتها الأصلية، بل إن ضعف الرابط بين اللغة وأصحابها هو ضعف للرابط بالوطن وقضاياه، والتمسك باللغة هو أحد أهم أوجه الانتماء في أعلى صوره، كما أن تهوين العروة بين اللغة وأصحابها، هو إحدى أدوات الهجمات الشرسة التي تعرضت لها أمتنا، وبلغت ذروتها عام 1880م، يوم وصف الدكتور "ولهلم سبيتا" - في كتابه "قواعد العربية العامية" - اللغة العربية بالصعوبة، ولذا هجرها العرب وراحوا يتحدثون العامية، وأنها مقصورة على بعض الواجبات الدينية، ومن المفيد التخلي عنها لأنها تعيق التمدن والرقي، وطالب بتقعيد قواعد العامية. وفي يقيني أن كلامه نابع من قناعاته أن اللغة عنوان استقلال الأمة، وإذا أردت أن تسيطر ثقافيا على أمة من الأمم فباعد بينها وبين لغتها، فمن تهن عليه لغته يسهل الهوان عليه في باقي قيمه الثقافية.

لذا فقد جاءت المبادرة تعزيزا للمحتوى العربي على الإنترنت لتخرج رؤية الإمارات إلى الساحة العالمية، ولن يتأتى ذلك إلا عبر مزيد من الفكر والإبداع والإنتاج الثقافي، وخاصة أن نسبة الإسهامات العربية على الشبكة العنكبوتية تكشف عن عجز كبير، وخطورتها أن من يسيطر عليها يشكل الأدمغة عالميا.

إن تعزيز اللغة لدى النشء يبدأ في مراحله الأولى وعبر القدوة والنموذج، وقد نص الميثاق على ذلك في بنده الثاني عشر، حين أكد أهمية أن تقوم المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة بتقديم برامجها باللغة العربية الفصحى ما أمكن، مع التركيز على إنتاج البرامج الموجهة للأطفال باللغة العربية الفصحى؛ بغية تعزيز استخدام اللغة العربية بشكل سليم.

وهنا أود أن يكون ضمن أدوات التعزيز، تبنّي كافة المؤسسات المعنية بالتعليم والإعلام هذا الميثاق، وإلزام العاملين فيها بالتحدث باللغة العربية الفصحى، وخاصة المدرسين وأساتذة الجامعات؛ ليكونوا قدوة للأجيال القادمة.

إن الاهتمام باللغة العربية وسبل تعزيزها، لا يمكن أن يأتي مشتتا عبر جهود فردية ومبادرات مجتمعية على فترات متباعدة، لذلك أعتقد أن أحد أهم أوجه هذه المبادرة، أنها كانت مبادرة تستند إلى ميثاق يستوجب أن يتوقف الباحثون والخبراء والتنفيذيون وأساتذة الجامعات أمام كل بند من بنوده، لوضع آليات تفعيلها لجني الثمار وتحقيق الغاية.

Email