الملف النووي الإيراني في إطار أزمة الشرق الأوسط

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتواصل التصريحات النارية بشأن الملف النووي الإيراني، بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وإسرائيل من جهة، وإيران وروسيا والصين من جهة ثانية. تطالب الولايات المتحدة ودول أوروبية، بإغلاق المنشآت النووية الإيرانية ووضعها تحت رقابة منظمة الطاقة الدولية، ووقف إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20%.

 وتتحين إسرائيل الفرصة للحصول على ضوء أخضر أميركي وأوروبي، لضرب المفاعلات النووية الإيرانية قبل تحولها إلى خطر يهدد وجود إسرائيل (كما تقول).

في المقابل، تتمسك إيران ببرنامجها النووي، وترفض دخول مفاوضات بشأنه في حال وجود شروط مسبقة، وتصر على ممارسة حقها المشروع في إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، لاستعماله لأغراض التنمية السلمية.

وتساندها روسيا والصين في تحذير إسرائيل من القيام بأي عمل عسكري ضد مفاعلات إيران النووية، وتعتبره عملا عدوانيا يشعل فتيل حرب مدمرة تطال منطقة الخليج العربي، وتهدد أمن االشرق الأوسط والسلام العالمي.

وقد أدركت الأمم المتحدة مخاطر هذا الوضع المتشنج، فدعت إلى معالجة الملف النووي الإيراني بالطرق السلمية، وعقدت لهذه الغاية مؤتمرا هاما في مركز المؤتمرات في إسطنبول، في 14 نيسان/ إبريل 2012.

وعقد المؤتمر بحضور إيران ومجموعة الدول (5+1)، أي الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا، وذلك بعد مرور أكثر من سنة على الجولة الأخيرة من مفاوضات عقدت سابقا في إسطنبول، دون أن تخرج بنتائج إيجابية. ووصفت إيران والدول الست المشاركة، محادثات إسطنبول الأخيرة بالإيجابية والبناءة.

فما هي التبدلات التي حصلت مؤخرا وساعدت على توصيف الحوار الأخير بين إيران وتلك الدول، بالإيجابي والبناء؟

1- لقد حققت محادثات إسطنبول الأخيرة تقدما ملحوظا في معالجة ملف إيران النووي، استنادا إلى تصريحات إعلامية صدرت بالتزامن عن إيران والأمم المتحدة والدول الست.

2- اعتمدت الدول الست أسلوبا دبلوماسيا مرنا، لحث إيران على ضرورة وضع برنامجها النووي تحت رقابة المنظمة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة. وذلك لحسم الجدل القائم حول طبيعة برنامجها النووي، وما إذا أعد لأغراض التنمية السلمية فقط. فمندوبو الأمم المتحدة ودول غربية عدة، يجزمون بأن إيران لا تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية فحسب، بل عسكرية أيضا.

3- بعد نجاح محادثات إسطنبول دعت روسيا إيران إلى الوفاء بالتزاماتها، لاستعادة ثقة العالم بأن برنامجها النووي لأغراض سلمية. فروسيا، إلى جانب دول كبرى ومعها إسرائيل، قلقة من وجود جوانب غامضة في برنامج إيران النووي، دون أن تمتلك معلومات دقيقة ومؤكدة حول وجود مكونات عسكرية فيه. ويتميز الموقف الروسي والموقف الصيني في الأزمة الإيرانية عن الموقف الغربي، من حيث رفض الدولتين لمبدأ فرض عقوبات قاسية على إيران.

وترى الدولتان أن الحوار الإيجابي وحده يجمع الأطراف المعنية بالأزمة الإيرانية، لتعزيز الثقة فيما بينها وتبديد الشكوك حول برنامج إيران النووي.

ويؤكد الروس والصينيون على ضرورة القيام بوساطة دولية لتبديد مخاوف الغرب من مخاطر هذا الملف، إلى جانب تبديد المخاوف من قيام إسرائيل المدعومة من دول غربية، بتدمير مفاعلات إيران النووية على غرار ما جرى في العراق وسوريا.

4- فرضت الدول الغربية على إيران عقوبات كثيرة مشددة، بدأت بحصار اقتصادي شامل من الولايات المتحدة ضد المؤسسات الحكومية والمالية والاقتصادية الإيرانية، بالإضافة إلى شركات دولية تتعاون مع إيران. وفي مطلع 2012، جمدت الولايات المتحدة أصول بنك إيران المركزي وأصولا مالية إيرانية أخرى.

وبدوره، خفض الاتحاد الأوروبي معاملاته مع إيران، في مجال التجارة الخارجية والخدمات المالية وقطاعات الطاقة والتكنولوجيا، ومنع شركات التأمين في دوله من التعامل مع الحكومة والشركات الإيرانية، وفرض حظرا على واردات إيران النفطية يبدأ مطلع تموز/ يوليو 2012، وجمدت أصول بنك إيران المركزي في أوروبا، بموجب قرار يهدد ركائز الاقتصاد الإيراني، لأن 80% من إيرادات إيران تأتي من صادراتها النفطية.

5- نتيجة العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة وحلفائها في الدول الغربية ودول أخرى في العالم، ومنها دول عربية، اهتزت ركائز الاقتصاد الإيراني، ففقدت العملة الإيرانية الكثير من قيمتها مقابل العملات العالمية الكبرى، وتراوح معدل التضخم السنوي خلال السنوات الماضية ما بين 15-35%، وازداد الوضع الاقتصادي تأزما بعد ارتفاع أسعار الكثير من السلع بنسبة تتجاوز 50%، وانخفضت القدرة الشرائية لجماهير الشعب الإيراني، رغم ادعاء التقارير الحكومية بأن تلك العقوبات لم تؤثر على حياة الإيرانيين. ويواجه الشعب الإيراني ارتفاع تكاليف المعيشة بمداخيل متدنية، وبدأ حجم الطبقة الوسطى في إيران يتقلص بسرعة، تحت وطأة التضخم وارتفاع كلفة المعيشة.

نتيجة تلك العوامل مجتمعة، قدمت إيران بعض التنازلات الملموسة في مؤتمر إسطنبول، دون أن تستسلم للضغوط الأميركية. وأكدت على أن مسألة ملفها النووي لن تحل إلا بالطرق السلمية، وبصورة تدريجية، وفق معادلة واضحة مفادها أن تقدم إيران تنازلات معينة، مقابل تنازلات تقدم لها من جانب الدول الست المشاركة. فالجميع بحاجة للخروج من المأزق، وتجنب حل عسكري تصر عليه إسرائيل بالتواطؤ مع دول غربية.

لقد بدا واضحا من خلال التصريحات التي أعقبت مؤتمر إسطنبول لبحث ملف إيران النووي، أن الحوار الإيجابي يفتح الباب أمام الجهود الدبلوماسية للتهدئة والاستقرار، وبناء ثقة متبادلة تساعد على معالجة الملف بطريقة عقلانية تجنب الشرق الأوسط مخاطر حرب نووية.

وأطلق المؤتمر مفاوضات الخطوة خطوة، والتنازلات المتبادلة، للقيام بتسوية شاملة وعادلة لهذا الملف، فحقق اللقاء إيجابيات ملحوظة تحتاج إلى مواصلة الحوار، وصولا إلى حل دبلوماسي يجنب المنطقة حلولا عسكرية جاهزة. فالمسألة بالغة الخطورة، وتستوجب إظهار الكثير من المرونة، ومعالجة المخاوف التي تقلق أطراف النزاع، حتى يتكلل الحوار بالنجاح. والمفاوضات المباشرة هي أفضل الحلول العقلانية لمعالجة أي ملف نووي، أما التهديد بالحل العسكري فيزيد من حدة التأزم والاحتقان.

وبقدر ما تتعاظم الضغوط الخارجية على إيران، فإنها ستلجأ إلى مزيد من التصلب في الحفاظ على برنامجها النووي. وتخشى الدول الكبرى من أن يفضي إصرار إسرائيل على الحل العسكري، إلى وقف المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، على غرار ما حصل في الملف النووي لكوريا الشمالية.

وقد لا تثمر المفاوضات نتائج ملموسة في هذا المجال تحت ضغط التهديد الإسرائيلي، مما يستوجب معالجة عقلانية للسلاح النووي أينما وجد، ووضعه تحت رقابة المنظمة الدولية للطاقة الذرية، والعمل على تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من السلاح النووي وكل أسلحة الدمار الشامل.

Email