الصحافة الورقية والإلكترونية تكامل لا مواجهة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعددت مصادر نشر الأنباء على مدار التاريخ الذي يفاجئنا كل يوم بوسيلة جديدة تصيب المتابع ببعض من الحيرة حيالها، وكذلك المؤسسات الرسمية حول كيفية التعامل معها ووضع القوانين المنظمة لها.

حدث هذا مع الكتاب المخطوط يوم أن قلده أرباب الكتاب المطبوع من حيث الشكل خوفاً من زهد القارئ فيه، ومع الراديو يوم أن أصرت رابطة بائعي الصحف على عدم إذاعته للأخبار خوفا من بوار بضاعتهم، أو قارئي القرآن من تسجيل قراءاتهم، ومع السينما يوم أن تحول ممثلو المسرح ومؤلفوه إلى العمل فيها، دون أن يدركوا الفروق بين الأداء في الوسيلتين، وكذلك مع التلفزيون يوم أن خشي الكثير من المسرحيين تسجيل مسرحياتهم تلفزيونياً، ظناً منهم أن الجمهور سوف يعزف عن الذهاب إلى المسرح.

الشاهد أن كل وسيلة جديدة من وسائل الاتصال بالناس، تأخذ وقتا من الزمن حتى يترسخ وجودها بين الناس وتتضح سبل التعامل معها وحدودها رسميا وشعبيا، وهذا الرصيد من المعاناة هو الذي يجعل لكل وسيلة مميزات عبر تاريخ ممارستها، تحول دون اختفائها.

ولأننا نعيش شكلا جديدا من أشكال نشر المعلومة وإذاعتها عبر ما يسمى الإعلام الجديد، أو البديل أو الإلكتروني بكافة صوره، ومنها الصحافة الإلكترونية، ما نقل الصحافة من نسختها الورقية إلى نسختها الإلكترونية كمنافس ـ في رأي البعض ـ للصحف الورقية، ولأن هذه الظاهرة ما زالت ملامحها في عالمنا العربي غير مكتملة وفي حالة سيولة، تتطلب التقييم بين الحين والآخر تعظيما لجوانبها الإيجابية، خاصة وأن جمهورها في المقام الأول من الشباب الذين ضعفت علاقتهم بالنسخ الورقية، والتي تعتبر قراءتها طقسا يوميا بملمسها ورائحة الحبر التي لا تدانيها أفخر أنواع العطور عند الكثيرين ممن تربوا على الصحف الورقية، التي لا أعتقد بأنها ستختفي في المستقبل المنظور، خاصة وأن أعداد مرتادي الإنترنت لم تصل بعد للحد الذي يجعل من الصحف الإلكترونية بديلا لها، رغم نجاحها الذي يزداد يوما بعد يوم، بل أرى أنها تكملها، وأحيانا تكون سببا في وجودها، وقد تكمل هذا الوجود من خلال السرعة الأكثر في تلقي الأحداث ونشرها.

كما أعتقد بأن الصحف الإلكترونية خففت إلى حد ما من الضغط المادي الذي تعاني منه الصحف الورقية، عبر توفير الأحبار والأوراق، وإلا كيف يكون الحال لو أن هذا الكم الكبير من الإصدارات تم عبر المطبعة التقليدية! كما أنها ساعدت على أن يكون الاتصال في اتجاهين، وأن يكون للقارئ أو المتابع الفرصة في إبداء رأيه، بل صارت الصحف الورقية مؤسسة لقياس رأي الجماهير وتوجهات الرأي العام في مختلف القضايا، عبر استطلاعات الرأي، وإن كانت تحتاج إلى قليل من الضبط المنهجي، إلا أنها تعطي مؤشرات مهمة لا شك في ذلك.

من هنا يجب على الصحافة الإلكترونية والقائمين على شأنها والمهتمين بتطورها وتدعيم أركانها يوما بعد يوم، ألا تحدث لديهم حالة من الاستعلاء نتيجة لهذا الإقبال الشديد عليهم نتيجة للظروف التي تمر بها المجتمعات العربية أو النامية، وأن يتقينوا أن نجاحاتهم لن تستمر ولن يكتب لها البقاء، إلا إذا جعلوا من خدمة الجماهير هدفهم الأول، لأن الشرعية الحقيقية لأي شكل من الأشكال الإعلامية، لن تتأكد إلا بعد ممارسته لفترة كافية يستطيع الجمهور أن يتأكد من صدقيتها، وإلا ارتد عنها وكأنها لم تكن، خاصة وأن بدايتها من منتصف التسعينات ليست عمرا طويلا. لذا فمن التشويهات التي تصاحب الكثير من الأحداث عبر الصحف الالكترونية أنها لا تتوخى الدقة الكافية، وذلك جعل مصداقيتها على المحك، وهذا أمر لا يمكن التهوين من شأنه.

والحقيقة الأخرى أن الفرد العادي في ظل هذه الغزارة في وسائل الإعلام والتعدد في مصادر المعلومات، لا يكتفي بوسيلة واحدة لاستقاء معلوماته، وقد يتعرض لأكثر من وسيلة لجمع المعلومات حول الحدث الواحد ويقارن فيما بينها، وقوة الوسيلة تأتي من ميراث الثقة الذي ينبني بتراكم الممارسة يوما بعد يوم. فقد تستطيع أية وسيلة إعلامية خداع بعض الناس تحت بعض الظروف لبعض الوقت، ولكن لا تستطيع خداع كل الناس طيلة الوقت.

ومصطلح إعلام، يعني إحاطة المواطن علماً بما يدور حوله من أنباء، بصدق ومهنية، عبر إمداده بكم من المعلومات التي تمكنه من اتخاذ قرار سليم، بدءًا من نوع الملبس وليس انتهاء باتخاذ موقف سياسي.

لذا على الصحافي الإلكتروني أن يجعل هدفه البحث عن الحقيقة وتقديمها للجمهور، وليس غيرها غايته. وهنا تثار إشكالية الحصول على السبق الصحافي والبحث عن الجديد، في ظل منافسة شديدة من عدد هائل من الوسائل الإعلامية. وهنا أقول إن المصداقية أهم من السبق الصحافي، وإن التأكد من مصداقية ما ينشر أولوية تسبق غيرها، حتى لو لجأ بعض الصحف لنسبة الأخبار إلى وكالات أنباء، اعتقادا منها بأنها بذلك تخلي مسؤوليتها، على غرار أن ناقل الكفر ليس بكافر. ولكن الحقيقة هنا أنها ساعدت على تزييف الوعي، وعليها تحمل مسؤوليتها أمام كل من كانت سبباً في تضليلهم وتزييف وعيهم.

وهنا، وعلى طريق ترسيخ مصداقية الصحافة الإلكترونية، لا بد من تحديد مصادر المعلومات كلما أمكن ذلك، خاصة وأن نقل الخبر قد يمرره الفرد إلى مئات الأفراد عبر ضغطة على مفتاح، كما أن غياب التخطيط وعدم وضوح الرؤية من لوازم الصحافة الإلكترونية.

إنني أؤكد على الانضباط ودقة الممارسة عند التعامل مع تلك الوسائل، من منطلق الحرص على استمرارها وتقوية العلاقة بينها وبين الجماهير، لأنها صحافة عابرة لكل أشكال الاستبداد والقمع والتقييد والاحتكار من قبل المؤسسات المتأطرة بإيدولوجيات تلون المضمون الإعلامي.

إن الممارسة المهنية للصحافة الإلكترونية هي الطريق الأكيد لنجاح الصحف الالكترونية واستمراها، وهي السبيل لبقاء جماهيرية هذا النوع من الصحف في عالمنا العربي، وأن تكمل بحق الدور الذي تقوم الصحف الورقية، بل وباقي وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، التي اعتاد بعضها في بعض الدول العربية الكذب حتى في النشرة الجوية.

Email